استطلعت وكالة تونس افريقيا للانباء ، مع اقتراب موعد المؤتمر 23 للاتحاد العام التونسي للشغل الذي ينعقد أيام 22 و 23 و 24 جانفي الجاري، رأي أحد الخبراء البارزين في تاريخ العمل النقابي في تونس وهو أستاذ التاريخ المعاصر والراهن، عبد اللطيف الحناشي، الذي قدم قراءة في مسار العمل النقابي في بلادنا منذ تشكل نواته الاولى في السنوات العشرين من القرن الماضي، وعلاقة النقابي بالسياسي في مختلف المراحل والمحطات التي مرت بها تونس على مدى عقود من الزمن.
يقول الاستاذ عبد اللطيف الحناشي أن العلاقة التي وصفها ب “الاشكالية” بين النقابي والسياسي تعود إلى بدايات العمل النقابي الوطني في البلاد وتحديدا عند تأسيس جامعة عموم العملة التونسية سنة 1924، إذ أن الخط الوطني الذي اتبعته الجامعة آنذاك لم يرق كثيرا لقيادة الحزب الحر الدستوي رغم أن هذا الأخير ساهمت قياداته، ومنها الطاهر الحداد وأحمد توفيق مدني، في تأسيسها.
كان الحزب الحر الدستوري يخشى مواقف هذه المنظمة التي يعتبرها “متطرفة”، ويتخوف من إمكانية توسعها على حسابه، وهو يلتقي في موقفه هذا مع إدارة الحماية التي تتهم جامعة عموم العملة ب”الموالاة للحركة الشيوعية”، وهو ما حدا بهما / إدارتا الحزب والحماية / إلى التحالف موضوعيا لضرب هذه التجربة النقابية الوطنية وهي في المهد.
ويرى الحناشي أن الأمر نفسه تقريبا تكرر سنة 1937 مع قيادة الحزب الحر الدستوري الجديد ( الديوان السياسي بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة ) الذي عمل من أجل تطويع النضال النقابي لصالح النضال السياسي لفائدة الحزب، إلا أن الكاتب العام لجامعة عموم العملة االتونسية الثانية، بقيادة بلقاسم القناوي، تشبث بفصل النقابي عن السياسي، وهو ما دفع الحزب إلى التحرك للسيطرة على هذه النقابة وإفشال مؤتمرها.
ويؤكد المتحدث أن النضال النقابي الوطني، توقف، بعد هذا الحادث، إلى أن تمكن الزعيم النقابي والوطني الكبير، فرحات حشاد، بعد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من توحيد النقابات الوطنية في الشمال والجنوب والنقابة العامة للموظفين، وتأسيس الإتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي 1946.
ومثل هذا الحدث نقلة نوعية في التنظيم النقابي على مستويي الهيكل والمضمون، فتمكن على المستوى الأول من الانتشار والتمدد في أغلب مناطق البلاد، أما على مستوى الخطاب أو المضمون فقد أصبح يمزج بين النضال النقابي المطلبي والنضال الوطني ولايفصل بينهما، مما دفع به إلى المشاركة في أول ممارسة وطنية وهي مؤتمر الإستقلال أو مؤتمر ” ليلة القدر” .
ويعتبر هذا المؤتمر أول تجمع لكل الأطراف السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية في تونس، باستثناء الحزب الشيوعي، وهو مؤتمر وفاق رفع فيه لأول مرة شعار الإستقلال، وانطلاقا من ذلك ناضل الإتحاد العام التونسي للشغل، جنبا إلى جنب، مع الحركة الوطنية التونسية، وأدمج النضال الوطني والنضال المطلبي النقابي.
وقد خاض الاتحاد، على هذا الأساس، العديد من الاضرابات ذات الطابع الوطني (السياسي)، بالتوازي مع نضالات الحركة الوطنية التي أدركت ذروتها بعد قمع قيادة الحزب أي الديوان السياسي سنة 1952، ليقود بذلك الاتحاد المعركة العنيفة أو الكفاح المسلح إبان ثورة التحرير الوطني في غياب القيادات السياسية المنفية أو المبعدة أو السجينة.
كل ذلك، يقول عبد اللطيف الحناشي، أهل المنظمة النقابية أن تلعب دورا أساسيا في بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال، إذ شارك في الحكومات المتعاقبة لدولة الاستقلال، منذ 1956، عدد من قياديي الاتحاد منهم محمود المسعدي، وأحمد بن صالح، ومصطفى الفيلالي، وأحمد التليلي، كما شاركوا في بناء الدولة الوطنية حتى أن الاتحاد ساهم في صياغة البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لمؤتمر الحزب سنة 1955 بصفاقس وهو البرنامج الذي تبنته الحكومة التونسية فيما بعد .
يرى الاستاذ عبد اللطيف الحناشي أن الدولة حاولت من خلال الحكومة أو الحزب الواحد آنذاك ترويض الاتحاد وقيادته، ونجحت في بعض الاحيان، ولكنها وجدت في أحيان أخرى معارضة لتوجهاتها، وشهدت العلاقات بين الجانبين فترات من الشد والجذب، ومن الانفراج والتوتر، وبقي الامر على ذلك الحال إلى حدود سنة 1978، عند اندلاع الخلاف العميق بين الاتحاد، بقيادة الحبيب عاشور، وحكومة الهادي نويرة، مما أدى إلى اندلاع أحداث ” الخميس الأسود” التي سقط فيها العشرات من الضحايا النقابيين في العاصمة وبقية المدن التونسية، بالإضافة إلى مئات من الجرحى، وتم على إثرها إعلان حالة الطوارىء، والزج بالقيادات المركزية والوسطى للاتحاد في السجن بعد مقاضاتهم في محاكمات وصفت بأنها ” صورية”.
وبعد تولي محمد المزالي حقيبة الوزارة الأولى، حاول إيجاد حل مع قيادة الاتحاد، وانعقد مؤتمر قفصة 1980، حيث تم تجاوز هذه الأزمة بعد إيجاد مخرج مشرف للزعيم النقابي الحبيب عاشور بإسناد الرئاسة الشرفية للاتحاد له، وتولي الطيب البكوش الأمانة العامة وهي خطة صلب الاتحاد أحدثت لأول مرة.
ورغم هذا الحل، الذي اعتبر منقوصا، ولم يرض الكثير من اطارات الإتحاد، ومع اشتداد الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في ظل توتر العلاقة مع ليبيا، وعملية حمام الشط سنة 1985، وأحداث الخبز 1984، وخاصة مع احتدام الصراع على الخلافة، وتزايد قوة المعارضة السياسية ضد النظام، حاول المزالي ايجاد منظمة بديلة تم وصف من قادها ب “الشرفاء” .
وظلت الأزمة على حالها إلى حدود سنة 1989، إذ بادر النظام الجديد بالاعتراف بالقيادات النقابية الشرعية التي عقدت مؤتمر سوسة سنة 1989، وبرزت قيادة شرعية اختارت اسماعيل السحباني أمينا عاما للمنظمة. وتميزت هذه المرحلة حسب الحناشي باتفاق واسع نسبيا مع النظام السائد من خلال إبرام اتفاقيات حول الزيادة في الأجور كل ثلاث سنوات وتطوير قوانين أساسية.
كما تمكن الاتحاد في كل مناسبة تتاح له من نقد سلوك النظام وخاصة من قبل النقابات العامة للتعليم الابتدائي والثانوي والعالي. واستغلت المركزية النقابية هذا الوضع لتطوير هياكل الاتحاد ونشر الثقافة العمالية من خلال الندوات أو الورشات التي كانت تقوم فيها الهياكل المختصة.
وفي موازاة ذلك قامت النقابات بعدد كبير من الاضرابات والاعتصامات في العديد من الجهات وخاصة في جهة تونس وبن عروس ومنوبة وأريانة ( تونس الكبرى ) الأمر الذي ساهم بشكل أو بآخر في مشاركة الاطارات الوسطى في الثورة التونسية. كما احتضنت مقرات الاتحاد المنتفضين الشباب في الجهات، لذلك يمكن القول أن الاتحاد ساهم بقدر أو آخر في اندلاع الثورة وفي احتضانها، بحسب قراءة هذا الخبير.
ولعب الاتحاد ، بعد الثورة دورا مركزيا في الدفع نحو عملية الانتقال الديمقراطي من ذلك أنه ساهم في تأسيس وبعث الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وكان ممثلا فيها تمثيلا واسعا.
كما ساعد في انجاح اعتصامي القصبة 1 والقصبة 2 ، وكان يستشار في تكوين الحكومات ما قبل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ولعب دورا رئيسيا في نجاح انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وفي التصدي للتطرف والارهاب. وكانت مقراته ضحية أعمال عنف متعددة ، كما تم تهديد قياداته بالاغتيال ( الأمين العام وأبو علي المباركي).
ويظل الدور الرئيسي والتاريخي الذي لعبه الاتحاد العام التونسي للشغل في هذه المرحلة هو تبنيه للحوار الوطني ومشاركته في الرباعي الراعي له ومشاركته فيه جنبا إلى جنب مع الرابطة الوطنية للدفاع عن حقوق الانسان وعمادة المحامين والاتحاد التونسي للصناعة واللتجارة والصناعات التقليدية ، ولاشك أن هذا الحوار، الذي كلل بجائزة نوبل للسلام سنة 2015، ساهم مساهمة أساسية في تجنيب البلاد أزمات سياسية واجتماعية عميقة، إضافة إلى مساهمة الاتحاد بدور أساسي ورئيسي في صياغة وثيقة قرطاج وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية وإن بطريقة غير مباشرة، بحسب الأستاذ عبد اللطيف الحناشي