يهود كثر عاودهم الحنين الى مسقط رأسهم تونس، فكانت زيارة معبد الغريبة بجزيرة جربة مناسبة لا فقط لأداء واجب ديني مقدس، بل كذلك لإستيعادة ذكريات طفولتهم وسنوات من عمرهم قضوها في ربوع هذه الجزيرة الخلابة أو مدينة جرجيس أومدينة حلق الوادي أو منطقة باب سويقة بالعاصمة، أين درسوا وإمتهنوا صناعات شتى، كصناعة المصوغ والدباغة.
لقد بقي إنتماؤهم لتونس جزءا لا يتجزأ من حياتهم وروابطهم الاجتماعية والثقافية والدينية، فظل الحنين يشدهم الى أرض تعايشوا فيها مع المسلمين والمسيحيين وكونوا فيها صداقات متينة عبر الزمن.
“ماكس” يهودي تونسي، غادر وأهله تونس منذ كان في سن العاشرة، إلا ان قصر هذه السنوات كان كافيا ليطبع في ذهنه ذكريات جميلة، وإحساسا بالارتباط والشوق وكثير من الحنين الى منطقة باب سويقة، أين ولد وتقاسم مع اطفال من سنه فترات من اللعب والدراسة، هي لا تزال عالقة بمخيلته رغم مضي إثنين وستين سنة عليها.
كان “ماكس” الذي يتكلم اللغة العربية بكل طلاقة، يتحسر على زمان كانت فيه زيارة الغريبة في غير شكلها الحالي، زمان كان هذا المعبد منصهرا في محيطه قريبا من سكان جزيرة جربة، يشترك في احياء إحتفالاتها المسلمون مع اليهود في كنف الهدوء والطمأنينة، حتى أن الالتحاق بالمعبد كان أمرا هينا متى أراد أي زائر الوصول اليه.
وإستدرك قائلا “إن الظرفية العالمية فرضت على تونس كأي بلد آخر في العالم، ان يتم تشديد الإجراءات الأمنية وأن يتعزز التواجد الأمني، بعد مستجدات عالمية أربكت كل العالم وإستوجبت تعاملا جديدا وهو أمر طبيعي”.
يتمسك “ماكس” بزيارة الغريبة سنويا، مالم تخنه صحته، لدافع ديني وروحي، ولجانب وجداني إجتماعي يربطه بتونس العزيزة على قلبه، على حد قوله، حتى أنه لا يجد مكانا أفضل من تونس لقضاء عطلته السياحية، لولا التخوفات التي أصبحت تكبل الجميع.
وبمثل مشاعر الشوق والحنين، وبلوعة الفراق والبعد، تحدثت “إيفون” ذات الخمسين سنة عن ذكرياتها حتى سن التاسعة عشرة في تونس، بين مدينة حلق الوادي وجزيرة جربة، يوم كانت وعائلتها تقصد الغريبة على متن سيارتهم عبر بطاحات جربة لتقضي أياما بالجزيرة.
يتقطع صوت “إيفون” احيانا وهي تسترجع بعضا من ذكرياتها، حينما يمتزج الفرح بالبكاء، فتتدارك بتنهدات من أعماقها لتؤكد أنه ليس من السهل على المرء أن يغيب عن مكان ولد فيه وقضى به سنوات من العمر بحلوها ومرها، وترك فيها ذكريات لن تمحى وأهلا تحت التراب، وأصدقاء شدتهم روابط متينة وجمعتهم أوقات وأجواء حلوة.
لم تنس “إيفون” علاقاتها مع جيرانها وخاصة أيام شهر الصيام، لتشترك معهم في إعداد وأكل العصيدة، كما لا تزال تتذكر الكثير من حياتها اليومية أنذاك، حيث كانت تخرج في ليالي الصيف هي وعائلتها لتناول كأس من الشاي بمنطقة سيدي بوسعيد و”مثلجات عند سالم” بمدينة المرسى، بالضاحية الشمالية للعاصمة، وفق قولها.
ولا تزال “إيفون” تزور مسقط رأسها في كل سنة تحج فيه إلى الغريبة، فبعد إنهاء هذا الواجب الديني بجربة، تتحول إلى تونس العاصمة لتزور والديها بمقبرة الجلاز، وتقضي فترة من الوقت في مدينة حلق الوادي التي ولدت فيها، وهو برنامج تنفذه سنويا دون تراجع مهما كان الظرف الأمني في تونس، وفق قولها، فهذه المرأة تؤمن كثيرا بالقضاء والقدر، وتعتقد أن ما كتب لها لن تهرب منه.
أنهت “إيفون” جولتها في ثنايا الماضي البعيد بين ذكريات الطفولة والشباب، لتنصرف في الأخير إلى بعد ديني وعقائدي جاءت الى الغريبة من أجله، فتأخذ بيضات كتبت عليها أمنياتها لتضعها داخل المغارة بكل خشوع وإيمان، وتخرج وبين يديها شموع أضاءتها لتنير لها باقي أيام عمرها ، حسب إعتقادها.