ما فتئت الوضعية المالية والاقتصادية في تونس تتردى خلال السنوات الماضية بما حتم على الحكومات المتعاقبة انتهاج سياسات تقشفية تعتمد في اغلبها على زيادة حجم الضرائب والترفيع في الاداءات.
واذا كانت هذه الاجراءات قد امتدت الى اغلب الشرائح الاجتماعية وشملت مختلف القطاعات والمهن فان الرياضيين في تونس وخاصة لاعبي كرة القدم الذين تقدر مداخيلهم السنوية من منح واجور وامتيازات بملايين الدينارات ظلوا بمناى عن هذا الاجراء المواطني .. وهو ما يطرح اكثر من سؤال عن الاسباب الكامنة وراء هذا الاستثناء الذي يراه عدد من المواطنين والخبراء “غير مبرر” خاصة في هذه الظرفية المالية الخانقة التي تمر بها البلاد التونسية.
لماذا هذا الاستثناء للرياضيين في دفع الضرائب والاداءات ؟
ماذا يقول القانون والتشريعات الجارية ؟
وما راي الشارع التونسي واهل الاختصاص ؟
ردود الفعل بخصوص جدوى سن قانون يلزم الرياضيين المحترفين بدفع ضرائب واداءات لفائدة الدولة ظلت متباينة في الاوساط الرياضية والاقتصادية والمالية بين رافض لهذا التمشي على خلفية الأزمة المالية التي تعصف باغلب الأندية المحترفة ومؤيد له ومطالب بتطبيق الضرائب على جميع المواطنين بالعدل والقسطاس دون اي استثناءات.
ولعل ما عمق من حجم الفجوة بين الجانبين هو مستوى المعيشة الذي سجل انخفاضا مهولا خلال السنوات الماضية مقابل انفجار غير مسبوق في كتلة اجور الرياضيين وخاصة أجور لاعبي كرة القدم في بطولة الرابطة المحترفة الاولى .. وهو ما افرز موجة من المطالب في الأوساط الاجتماعية والاقتصادية تشدد على ضرورة إخضاع اللاعبين للضرائب وسن قوانين وتشريعات تجبر أندية كرة القدم بشكل خاص على اعتماد مقاييس أكثر شفافية في سياساتها المالية العامة.
واذا كانت الدولة تعمل في المدى المنظور على تحصيل عائدات في حدود 1355 مليون دينار للمساهمة في تمويل ميزانية سنة 2018 من خلال الترفيع في الأداءات والضرائب بجميع أصنافها وزيادة معاليم الإستهلاك والزيادة في الضرائب الموظفة على الأجور والدخل فان “الضرائب المتاتية من القطاع الرياضي قادرة على توفير عشرات ملايين الدينارات ” حسب الخبير المالي والاقتصادي وليد بن صالح.
نفس هذه المنهجية في تناول موضوع تكريس العدالة الجبائية اعتمدها وزير المالية رضا شلغوم عندما اعلن الاسبوع الماضي في ندوة صحفية ” ان مبالغ مالية هامة كان يجب ان تستخلص من الفنانين ولاعبي كرة القدم” مشددا على ان ” مشروع قانون المالية الجديد الذي يتم اعداده سيفرض على الفنانين ولاعبي كرة القدم القيام بتسجيل عقودهم .. مع ما يترتب عن ذلك طبعا من اداءات لفائدة خزينة الدولة واجراءات جديدة ستتخذ لمقاومة ظاهرة التهرب”.
وفي تصريح ل “وات” اعتبر انيس بن ميم الخبير في القانون الرياضي ان “مسالة دفع الواجب الضريبي للدولة تعد من اهم مقومات المواطنة” مشيرا الى ان “الرياضي باعتباره مواطنا قبل كل شيئ ملزم قانونيا واخلاقيا بدفع الاداءات المحمولة عليه للدولة وذلك من باب العدالة الاجتماعية والمساواة بين كافة المواطنين في الحقوق والواجبات”.
وباعتبار ان التهرب من اداء واجب الجباية يعد جريمة كبرى في البلدان الديمقراطية يخضع مرتكبها لتتبعات عدلية وقضائية صارمة .. ولان اخضاع اللاعبين المحترفين للضرائب والاداءات من شانه ان يزيل ما ترسخ في الوعي الجمعي الشعبي كون نجوم الرياضة في تونس يتمتعون بالحصانة على مستوى المعاملات والادارة والخدمة العسكرية والجباية وغيرها .. فقد تحركت مصالح الجباية التابعة لوزارة المالية وقررت وضع حد للتهرب الجبائي بسن قوانين ملزمة في مشروع قانون المالية المنتظر عرضه على مجلس نواب الشعب قريبا للنقاش والمصادقة.
واوضح بن ميم في ذات السياق بالقول ” بعد ان تم ارساء قانون في 2015 يمكن الأندية من جدولة ديونها لفائدة الدولة وتسوية وضعياتها الجبائية التي كانت معلقة بسبب الازمة المالية التي عانت منها الفرق الرياضية منذ 2011 اعتقد ان التشريعات الجديدة من شانها ان تجبر اللاعبين على دفع الضرائب لفائدة الدولة بعد ان تقتطعها الاندية بنفسها من الأجور والمنح السنوية للاعبين وذلك حسب مقاييس مضبوطة تعلنها وزارة المالية”.
وجدير بالملاحظة ان مشروع القانون الجديد طالما واجه ردود فعل متباينة من جانب بعض الرياضيين المحترفين إذ يرى وليد الهيشري لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري (في تصريح سابق له بخصوص الموضوع) انه “لا بد من الاعتراف ان أجور اللاعبين في تونس ارتفعت كثيرا مقارنة بالمواسم الماضية خاصة في الجمعيات الكبرى. بالنسبة لي لست رافضا تماما لفكرة أن يؤدّي اللاعب الضرائب والأداءات المتوجبة عليه اسوة ببقية المواطنين .. بالعكس هو واجب علينا القيام به وهي مسألة لا اختلاف فيها . لكن يبقى الإشكال في أن حقوق اللاعبين ايضا غير مضمونة فمعلوم لدى الجميع أنّ العمر الرياضي للاعب كرة القدم قصير ومسيرته الرياضية يمكن أن تتوقف في أيّ لحظة. لذلك اتساءل كيف يمكن لللاعب ان يعيش بعد انتهاء حياته الكروية ؟
اقدر انه أصبح ضروريا أن تقوم الدولة وسلطة الاشراف بمراجعات شاملة وعميقة للموضوع من كافة جوانبه. ربما وجب ايضا بعث نقابة تدافع عن حقوق اللاعبين وتحثهم على القيام بواجباتهم. ارجو أن يلتفتوا إلى اللاعب التونسي بأكثر جدية وأن يضمنوا له مستقبله حتى يكون كامل المواطنة حريصا على حقوقه وامينا في ذات الوقت على القيام بواجباته وعلى راسها واجب الجباية”.
ما لا يختلف حوله اثنان اليوم في تونس هو ان عددا من لاعبي البطولة التونسية يحصلون على “اجور خيالية ورواتب خرافية مقارنة بمستوى المعيشة والمقدرة الشرائية في بلادنا ” حسب بعض الخبراء خاصة في النوادي الاربعة الكبرى وهي الترجي الرياضي والنادي الأفريقي والنجم الساحلي والنادي الصفاقسي.
هذا الامر ما فتئ يثير حفيظة الأوساط الرياضية والاجتماعية الشعبية التي وصفت الظاهرة “بالضربة القاصمة للاقتصاد” الذي يشهد بدوره فترة انكماش وركود حاد .. وقد دعا عدد من اهل الاختصاص والمهتمين بالشان الرياضي والمالي الى “تسقيف الاجور والمنح” بهدف الحد من حجم التضخم والمضاربة وتكريس مبدا الشفافية والنزاهة على مستوى المعاملات في قطاع رياضي مازال يكتنف معاملاته المالية شيء من الريبة والغموض.
الشارع الرياضي التونسي من جانبه ينظر الى موضوع الضرائب في القطاع الرياضي بكثير من الريبة حيث يقول المواطن هيثم بالرباعي (27 سنة/حي التضامن) ” معلوم لدى الجميع أنّ اللاعب التونسي لا يقوم بدفع الأداءات المتوجبة عليه رغم وجود معاملات بالمليارات بين الأندية واللاعبين والسماسرة .. مبالغ طائلة يتحصل عليها البعض في شكل أجور تفوق الخيال احيانا بالنظر الى الواقع التونسي. هذا غير منطقي باعتبار أنّ كل من يعمل ويتحصل على مقابل لابدّ أن يدفع الضرائب للدولة حتى يستقيم الوضع الإقتصادي المنهك للبلاد خاصة في الفترة الحالية. من غير المقبول أن يدفع المعلم والطبيب والمحامي والجامعي الضرائب في حين يتمتع الرياضيون بحصانة لا مبرر لها .. هم أيضا مواطنون تونسيون لهم نفس الحقوق والواجبات تجاه بلادهم. ارى من الواجب ان تعيد الحكومة النظر في هذا الأمر حتى تتحقق المساواة والعدالة في اداء الواجب الضريبي. الدولة التونسية يجب الا تميز أحدا عن غيره …”
من ناحيته اعتبر الخبير الاقتصادي والمالي وليد بن صالح في تصريح لوكالة تونس افريقيا للانباء ” ان استثناء الرياضيين من الاداءات يعد شكلا من اشكال التهرب الضريبي وخرقا واضحا للقانون من شأنه أن يخل بالموازنات المالية للبلاد “. واوضح ” اللاعب كغيره من المواطنين له حقوق وعليه واجبات جبائية إزاء الدولة .. وهو باعتباره أجيرا لدى احد النوادي مطالب بالالتزام بقانون الضرائب سواء مباشرة أو عبر مشغله..
وشدد بن صالح ل “وات” على ان ” المقترحات الجديدة في مشروع قانون المالية لسنة 2018 جاءت فقط لمزيد تطوير التشريعات الموجودة وضبطها ” مؤكدا ان ” القانون والتشريعات الجاري بها العمل في تونس منذ سنوات عديدة تساوي بين المواطنين ولا تستثني احدا .. وبالتالي فان مسالة دفع الجباية والقيام بهذا الواجب الوطني تستدعي مزيد اليقظة من جانب مصالح الجباية ووزارة المالية فضلا عن تفعيل القانون وتطبيقه بكل صرامة على الجميع دوء استثناء أي مهنة او قطاع ..