عبيد البريكي”لا توجد إرادة سياسية لمحاربة الفساد وآلاف المليارات يمكن ضخها في ميزانية الدولة لو تجرأت الحكومة على تنفيذ إصلاحات حقيقية


“ليس هناك إرادة سياسيّة حقيقيّة لمحاربة الفساد في تونس ولم نلق تجاوبا من الحكومة عندما طرحنا العديد من ملفّات تستنزف موارد الدولة وكان بالإمكان، لو تم قبول اقتراحات حلّها، توفير موارد بالمليارات لصالح ميزانيّة الدولة تغني عن إثقال كاهل المواطنين بالضرائب”، هذا ما استنتجه وصرّح به عبيد البريكي الوزير السابق للوظيفة العموميّة والحوكمة ورئيس حزب “اليسار التونسي الموسّع”، في حوار أدلى به إلى وكالة تونس إفريقيا للانباء.
وشغل البريكي، لستة أشهر فقط، منصب وزير الوظيفة العمومية والحوكمة، في حكومة الوحدة الوطنيّة، من 27 أوت 2016 وحتّى تقديم إستقالته في 25 فيفري من نفس السنة ليتمّ حذف الوزارة نهائيا بعد ذلك التاريخ.
وات: أولا ما هي قراءتكم للتصنيف الأخير لتونس من قبل منظمة “الشفافية الدولية” حول مدركات الفساد ؟
عبيد البريكي: لا يمكن تقييم التصنيف الأخير لمنظمة “الشفافية الدولية” إيجابا حتّى وان كانت البلاد تقدّمت بنقطة ضمن هذا الترتيب مقارنة بالسنة الماضية (41 نقطة/100 في 2016 مقابل 42 نقطة/100 في 2017). إذ لا يعكس التقدم بنقطة شيئا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأولويّة، التّي أعلنتها حكومة الوحدة الوطنيّة ووثيقة قرطاج، ألا وهي محاربة الفساد.
وتقدّمت تونس بنقطة فقط في نظري بسبب القوانين التّي تمّ سنّها أخيرا والمتعلّقة بحقّ النفاذ إلى المعلومة وبقانون حماية المبلّغين وإن لم يتمّ تفعيل القانون الثاني ولم يتم حماية المبلّغين فعليا بل أن الكثير منهم يواجه اليوم مشاكل عديدة بسبب الكشف عن ملفات فساد.
وات: ما الذي أثر سلبا على تصنيف تونس برأيك؟
عبيد البريكي: إنها خيبة في نظري وهذه الخيبة لها أسبابها. السبب الأول في اعتقادي هو قانون المصالحة، الذي كان من الأسباب الأساسية، التّي عرقلت تقدّم تونس في التصنيف من جهة ووضعتها على القائمة السوداء للملاذات الضريبية من جهة أخرى.
لست ضدّ المصالحة في مفهومها الشامل وإنما ضدّ غياب أسس صحيحة لتطبيق هذا القانون مما يجعله كلمة حقّ أريد بها باطلا. كان من المفروض أن يسبق هذا القانون، لو كان هدفه نبيلا، قانون آخر يتعلّق بمكافحة الإثراء غير المشروع لأنّه لا يمكن أن نتصالح مع فرد ليست لنا آليّة لمحاسبته لأنّ المصالحة تأتي عادة بعد المحاسبة. ولا يمكن للقضاء وحده القيام بمهمّة المحاسبة لأنه مكبّل، اليوم، بعديد القضايا وكان من المفروض أن نسهّل مهمّته عبر المصادقة على قانون مكافحة الإثراء غير المشروع.
هذا القانون كان بالإمكان أن يساعد على جرد ممتلكات الأشخاص المعنيّين وبالتالي طرح السؤال “من أين لك هذا؟ وعلى أساسه تتمّ المحاسبة وبعدها المصالحة.
نعيش في مجتمع يحتاج فعلا إلى التصالح ولكن لابد أن يكون ذلك على قاعدة المحاسبة أوّلا. لقد أعطت تونس، بقانون المصالحة، إشارة سيّئة الى الأوساط الدوليّة ووكالات التصنيف، التي تتابع الوضع في البلاد ولابد أن تكون على علم بأن المجتمع المدني والكثير من الاحزاب قد طعنت في هذا القانون واعتبرته تبييضا للفساد وبالتالي لسائل أن يسأل لماذا الاصرار على تمريره؟
وات: كنتم على رأس وزارة الوظيفة العمومية والحوكمة ولكن للأسف تم حذف هذا الهيكل ولم يتم تعويضه بهيكل آخر في الوقت، الذي تحتاج فيه البلاد الى إستراتيجية في هذا المجال. ألا يعتبر هذا منحى مخالفا للأهداف، التي رسمتها الحكومة؟
عبيد البريكي: بالفعل، إذا كان هدف البلاد مكافحة الفساد فلابد من وجود آلية لذلك ولا بد من إطار لتنظيم عملها في هذا المجال. كان من المفروض دعم الوزارة بهياكل وإدارات أخرى، فمن غير المعقول في بلاد تحتاج الى حوكمة والى آلية حوكمة جوهريّة لتجتثّ الفساد من جذوره، أن تفتقر الى هيكل مؤطر ومتعاون مع بقيّة المكوّنات، التّي تقاوم الفساد. ويعدّ حذف الوزارة رسالة أخرى سيّئة تضاف الى الرسالة الأولى ولا تعكس إرادة سياسية حقيقيّة لمكافحة الفساد.
وانحصرت مكافحة الفساد، بالنسبة للحكومة، في إيقاف مجموعة أشخاص وهذه المجموعة، حتى الساعة، لم يكن البحث بشأنها بالوضوح اللاّزم ولم تقدّم معطيات لعموم الشعب حول الأسباب الحقيقيّة لإيقافها. برأيي لابد من إعادة النظر في التشريعات ولا بد أن تراجع الصفقات العمومية، التي كانت مدخلا للفساد، كما تمّت مراجعة قوانين الاستثمار، التّي تشجّع على الرشوة بشكل أو بأخر وكذلك مسألة تعيين الرؤساء المديرين العامّين على رأس المؤسسات العموميّة.
ففي رأيي، مادامت الإدارة خاضعة إلى القرار السياسي الحكومي وتعيين الرؤساء المديرين العامين يتم بالولاءات فلا يمكن أن نتحدث عن مكافحة الفساد في المؤسسات العموميّة ولا يمكننا بهذه الطريقة إنقاذ هذه المؤسّسات، التي تمر بصعوبات وتحتاج إلى حوكمة فعليّ.
ما يجري في تونس اليوم هو أن “خبراء الفساد” والفاسدين يراهنون على الأحزاب الكبرى ويدعمونها ماديا لإدراك السلطة. بالتّالي يصبح الحزب المدعوم رهين تمويلات اللوبيات وتصبح الحكومة، التي تنبثق عن الأحزاب محرجة في إتخاذ القرارات الحاسمة والإجراءات اللازمة للخروج من أيّ أزمة.
ولهذا السبب لمّا خطى الشاهد خطواته الأولى لمكافحة الفساد واجه صعوبات ومشاكل كبيرة ولم يتردّد فقط وإنما متلكئا في تطبيق الإجراءات. أعتقد أننا لن نتقدّم كثيرا في مكافحة الفساد ما لم تستهدف الحرب أموال المهرّبين والفاسدين و”المرتزقين من الديوانة” وأموال الاقتصاد الموازي.
وات: ملف الحوكمة مرتبط أيضا بمحاربة الفساد وأنتم كنتم في موقع يخول لكم المساهمة في الحرب على هذه الظاهرة. فما الذي اقترحتموه أو حققتموه وما هي الصعوبات التي واجهتكم؟
عبيد البريكي : لقد تم تعييني في أوت 2016 وقدمت استقالتي في فيفري من نفس السنة فترة 6 أشهر لم تكن كافية لتطبيق أي من البرامج. وقمنا في تلك الفترة بضبط برنامج اصلاحي وطرحناه وحددنا اجالا لتنفيذه. وسعينا من خلال طرحنا أن نؤسس لإدارة أكثر فاعليّة وقدّمنا فكرة الوظيفة العموميّة العليا وكيف يمكن للكفاءات العليا أن تلعب دورا في الفترة الحالية. كما طرحنا فكرة اصلاح واقع السيارات الادارية والبنزين.
ولأنّ ملف السيارات الإدارية ووصولات البنزين تعتبر من المداخل السيئة، التّي يتمّ فيها إهدار المال العام وتبذيره. كان المقترح وقتها أن يشتري كل مدير سيّارته الخاصّة وتعويض الامتيازات بمنحة يتمّ الإتفاق بشأنها مع النقابات والمديرين العامّين.
طرحنا أيضا فكرة تقريب الخدمات من المواطن. فمن غير المعقول أن لا توجد مثلا في منطقة مثل منطقة “المظيلة” أي إدارة مهما كان نوعها. كما إقترحنا في هذا الإطار تركيز “دور للخدمات” وهي عبارة عن مناطق تكون فيها مكاتب لشركة الكهرباء والبريد وشركة توزيع المياه ومكتب صندوق الخدمات الاجتماعية والحيطة الاجتماعية لضمان العيش الكريم للمتقاعدين، الذين يضطرّون للتنقل في ظروف سيّئة للحصول على منحة التقاعد ويفقدون جزء منها كمصاريف تنقّل. وطرحنا في مجال الحوكمة برنامجا ذي إتّجاهين.
ويخصّ الإتّجاه الأوّل الوظيفة العموميّة، التي أصبحت تشكّل عبئا على ميزانيّة الدولة نتيجة سياسات سابقة وانتدابات عشوائيّة ضاعفت عدد الموظّفين. لا توجد ميزانية دولة في العالم يمكن أن تتحمل مضاعفة عدد الموظّفين مع غياب النمو. وكان من بين مقترحاتنا عرض فكرة التقاعد المبكر والتقاعد الاختياري والخاضع إلى مفاوضات. وقد بدأت الحكومة في تطبيق هذا البرنامج لحسن الحظ.
ويتعلّق الإتّجاه الثاني بالحوكمة وأردنا من خلاله أن نعالج مسألة المؤسّسات العموميّة، التي تعيش مشاكل. والمبدأ كان حوكمة الم%