كتب الدكتور عبد السّلام شقير:
لم يشهد تاريخ تونس المعاصر تحاملا محموما على الأطبّاء كالذي يشهده في أيّام النّاس هذه، حتّى أنّهم أصبحوا بين خيارين لا ثالث لهما، فإمّا أن ينكفؤوا على أنفسهم في المخابر و العيادات و يتحوّلوا إلى مجرّد آلات بشريّة تعالج أسقاما، كائنات بشريّة مسلوبة النّخاع… و لهم عندئذ الأمن و الأمان، و إمّا أن ينخرطوا كسائر أبناء هذا الوطن في شؤونه و همومه و يمدّوا أيديهم للإسهام في حلّ مشكلاته و يرفعوا صوتهم جهيرا مصدعا بالحقّ، و لهم عندئذ أن يتلقّوا الشّتائم و السّباب و أن يهدّدوا بالويل و الثّبور و عظائم الأمور. لقد جاء على أطبّاء بلدي حين من الدّهر إنخرطوا فيه في السّياسة و مدّوا أيديهم لإصلاح الشّان العامّ مثلما مدّوها في العيادة لعلاج المرضى فلم يناوئهم حزب سياسيّ و لم يعادهم طرف إجتماعيّ، بل عاضدهم و استمع إليهم و اعتدّ برأيهم، كان ذلك منذ كانت البلاد محتلّة سليبة، و تواصل الحال وقت الإستقلال و بناء الدّولة.. و إلى عهد غير بعيد !
حفظت لنا الذّاكرة الجمعيّة أطبّاء مناضلين عالجوا أسقام العقليّات المريضة و أدواء المجتمع الخانع السّقيم مثلما عالجوا مرضاهم من علل الأبدان، فما كان من أولي الأمر إلّا الحضوة و المكانة المرموقة، فاعتلوا أعلى المناصب مثلما افتخر بهم نقيبهم و عميدهم و اعتبرهم ذخرا للبلاد و العباد، أذكر من هؤلاء الدّكتور الصّادق المقدّم رئيس مجلس الأمّة، و الدّكتور الضّاوي حنابليّة طبيب القلب و وزير الدّاخليّة، و الدّكتور حامد القروي القائد البارع و وزير الدّولة و رئيس الحكومة الحاذق، أحد الذين قضوا على داء السّلّ عافى الله الجميع في بلدي..
و إذا ذكرت هؤلاء فإنّني لن أغفل عبقريّة النّوع في بلد ديدنه المساواة، لأذكر الدّكتورة الطّبيبة سعاد اليعقوبي الوحيشي الوزيرة و السّفيرة…
هؤلاء و سواهم حفظتهم الذّاكرة و لا يرقى الشّكّ لدى رعيل ممّن عرفهم إلى وطنيّتهم و نضاليّتهم، حظاهم زعيم ذكيّ بعيد النّظر واسع البصيرة، كما حظاهم حزب وسطيّ إصلاحيّ ستمع إليهم و اعتدّ برأيهم..
أين نحن اليوم من كلّ هذا، لماذا ترتدّ الأمور بدل من أن تسير قدما، لماذا هذا الخناق الضّيّق على رسول الرّحمة ضمّاد الجروح… لماذا هدّم الأخلاف ما شيّد الأسلاف !
إذا كان لما يسمّى “الرّبيع العربيّ” فضلا واحدا على تونس فهو نزع الأكمام على الأفواه و إطلاق العنان للتّفكير الحرّ إطلاقا كلّف أبناء الأمّة من دمهم و قوت صغارهم، من خبزهم و دينارهم ما أعاد إلى ذاكرة الشّعب زمن الخصاصة و الشّظف !
أنا طبيب أسنان حديث عهد بالممارسة و شابّ متحمّس ألهمني الله قول الحقّ و الصّدع بالحقيقة، أو بما أراه حقّا و عدلا على الأقلّ، لم أسبّ أحدا و لم أعرّض بسمعة أحد من أبناء وطني، شغفت منذ يفاعتي بالرّأي و المصدح و أمارسه اليوم بعد مهنتي متطوّعا و هاويا غير مأجور. فما ذنبي إذا فهم كلامي على غير مرادي و ما جريرتي إذا تأوّلوا قولي على غير مقصودي من قبل بعض الجمعيّات المنحلّة و أطراف وطيدة القرب من حركة النّهضة، ظنّت أنّ كلامي يعنيهم و سهام انقاداتي مصوّبة إليهم بينما لم أشر لهم تصريحا و لا تلميحا و إنّما نحيت بالّائمة على المنظّمة العالميّة للإخوان المسلمين و فروعها في تونس، فهل أنّه عليّ إخراس صوتي حتّى يكفّوا عنّي تهديدهم و وعيدهم بهواتف مجهولة المصدر و برسائل إلكترونيّة، بل و حتّى في صحف سيّارة متاحة لكلّ قارئ.. و هل أجيبهم بقول الشّاعر :
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
أم بالمثل التّونسيّ المأثور
إذا دام هذا الحال يا مسعود فلا ناقة تنفع و لا قعود