“سحرية اللغة وسقف الكلام” عنوان ندوة تكريمية للشاعر التونسي الكبير منصف المزغني تقام على مدى يومي الاثنين والثلاثاء 20 و21 ماي 2019 بمدينة الثقافة ضمن منتدى الفكر التنويري التونسي.
السهرة الافتتاحية للندوة التكريمية حضرها جمع من المثقفين من أدباء وشعراء ونقاد وإعلاميين وغيرهم اختاروا أن يكون السمر الرمضاني مع مداخلات وحديث عن الشعر وعن المسيرة الأدبية الثرية للشاعر منصف المزغني.
كان ضيوف قاعة المبدعين الشبان بمدينة الثقافة، حيث تقام الندوة، على موعد قبل انطلاق السهرة مع افتتاح معرض توثيقي للمحتفى به يصور مراحل الطفولة والصبا والشباب للشاعر منصف المزغني حيث تضمن صورا من ألبوم العائلة وأخرى تجمع الشاعر مع عديد الشخصيات والمبدعين الكبار التونسيين والعرب فضلا عن نماذج من إصداراته الشعري.
ثراء هذا المعرض يقيم الدليل على امتداد علاقات الشاعر وتنوع تجربته على حد عبارة محمد الهادي الجويني مدير عام مؤسسة تنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية، الذي أشار بالمناسبة إلى أن المؤسسة ستتولى السهر على توثيق أعمال هذه الندوة وغيرها من الندوات التكريمية من خلال إصدارها في كتب لاحقا.
الشاعر منصف المزغني هو “علم من أعلام الثقافة في تونس وفاصلة من فواصل الشعر الحديث والمعاصر”، هكذا وصفه الكاتب والجامعي صالح بن رمضان الذي أدار اللقاء، قبل فسح المجال للنقاد والمبدعين لتقييم المنجز الإبداعي الشعري للمزغني.
“عناقيد الفرح الخاوي” و”عياش” و”قوس الرياح” و”حنظلة العلي” و”حبات” و”محبات” و”هنا تونس، النشرة” و”مشاعر” إصدارات للشاعر منصف المزغني تعكس تطور تجربته على مر الزمن وهو الشاعر المسكون بهاجس الخوف من التأثر بالشعراء الذين قرأ لهم وبالسعي في كل مرة إلى درء تكرار ما جاء في مجموعته الشعرية السابقة. ففي كل مجموعة شعرية تجربة جديدة وسعي إلى الابتكار هو ما مكن المزغني من أن يكون ذا أسلوب متميز.
هذا التميز عدده الباحث محمد صالح بن عمر الذي كان أصدر كتابا عن المزغني سنة 1996 ودرس قرابة 90 بالمائة من منجزه الشعري، فأبرز تنقل المزغني بين الأغراض الشعرية من إصدار إلى آخر حيث كتب الشعر الملحمي والتناص بين الشعر والفنون وكتب الهايكو الياباني والشعر التأملي في السلوك البشري والشعر التأملي السياسي.
وبالإضافة إلى طريقة الإلقاء المميزة للمزغني وتأثيرها على المتلقي حيث يستخدم التمثيل والغناء في قراءته للشعر بشكل مميز ينال إعجاب الجمهور التونسي والعربي به، مما جعله أحد الضيوف الذين تحرص القنوات التلفزيونية على دعوته مرارا، أشار الباحث إلى ما أسماه “التصميم العقلي في القصيدة” موضحا أن المزغني ضد ما يعرف بالإلهام الشعري فالشعر عنده عمل حرفي بحت وهو يشبه في ذلك الشاعر الفرنسي بول فالران الذي يؤمن بأن كل عنصر له وظيفته في القصيدة.
وشدد على أن من ميزات إنشائية الشعر لدى المزغني قدرته على التلاعب بالألفاظ واستنباط الدلالات الخفية من البنى اللغوية وتوظيفها. فالمزغني يخلق الكلمات ويبتدعها مثلما ابتكر فعل اشعوعر (صلعته تشعوعر بالأفكار) أو تأرنب (سلحفاة تتأرنب) وغيرهما، كما يوظف الكلمات لأغراض دلالية عميقة وهو ما يتجلي مثلا في نقده السياسي للبرلمانات العربية حين يقول “دخل خروف للبرلمان قال ماع…جاء الصدى إجماع” في إشارة إلى خضوع البرلمانيين للسلطة التنفيذية.
والمزغني في كل ذلك لا يتسلى بالتلاعب بالألفاظ بل لكل لفظ هدف من استعماله ولكل قصيدة محور خاص بها مما يؤكد تماسك رؤيته وانسجام عالمه الشعري فقد كتب عن نضال الشعوب ضد الديكتاتورية (وخاصة نضال الفلسطينيين ضد الاحتلال) ونضال الإنسان من أجل الحرية وهو ما يجعل المزغني في الشعر شبيها بالبشير خريف في السرد من حيث اهتمامه الكبير بمحور الحرية في أعماله وفق محمد صالح بن عمر.
سهرة الاثنين كانت مناسبة أيضا حمل فيها الناقد أحمد حاذق العرف الحاضرين إلى رحلة في الذاكرة منذ أول لقاء جمعه بالمزغني سنة 1976 مسلطا الضوء على مسيرة هذا الشاعر الذي كان “نجم المشهد الشعري بلا منازع في أواخر السبعينات” وتحدث عن حياته النضالية وأنزلها في سياق تاريخ الفكر الاجتماعي والثقافة العضوية، فممارسة القول الشعري تقترن عند المزغني بالفعل اليومي بحسب العرف.
هذه المسامرة التكريمية الأولى للمزغني شارك فيها أيضا الجامعي عبد القادر العليمي الذي قسم شعر المزغني إلى ثلاث مراحل معتبرا أنه توجه من خلال شعره في السبعينات إلى الجماهير العريضة قبل أن يتجه في مرحلة ثانية إلى المثقف الواعي الذي يحسن فك الرموز الشعرية. أما المرحلة الثالثة التي تتواصل إلي اليوم فتتمثل في نحت الصورة الشعرية المستحدثة. كما قدمت الكاتبة آمال المختار قراءتها للمزغني الانسان والشاعر الذي وصفته بنصير المرأة والمؤازر لها. وتحدث الشاعر شكري السلطاني عن المزغني “بين الذاكرة الشعرية والخوف”.
ومن جانبه قرأ الشاعر نورالدين صمود على مسامع الحاضرين قصيدة أهداها للمحتفى به، قبل أن تختتم السهرة بقراءات شعرية للمزغني الذي لم يخف سعادته بهذا التكريم معربا عن استعداده لقبول الآراء الناقدة له قائلا بابتسامة “ربما نستلّ من الهجاء نوعا من المديح، لتداخل الأغراض فالغزل مثلا مديح للمعشوق والرثاء مديح للميت”.
تكريم المزعني هو الحلقة الثالثة في سلسلة التكريمات التي استهلها منتدى الفكر التنويري التونسي سنة 2019 تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية حرصا على الاحتفاء برموز الثقافة التونسية ، فقد تم الاحتفال سنة 2017 بمائوية الأديب بشير خريف وتم هذا العام إحياء ذكرى مرور خمسين سنة على رحيل العلامة حسن حسني عبد الوهاب تلاها تكريم ثلة من المبدعين الأحياء حيث تم تكريم القاصة نافلة ذهب والكاتب حسن نصر والشاعر منصف المزغني.
وأشار المنسق العام لهذه الندوات الصحفي والكاتب محمد المي، في تصريح لوات، إلى أن هذه التكريمات ستتواصل من خلال تنظيم ندوة يوم 13 جوان حول المناضل علي البلهوان تليها ندوة أخرى لاحقا حول جلال الدين النقاش الشاعر الذي كتب أول نشيد رسمي تونسي “ألا خلدي” وندوة حول الكاتب محمد الصالح المهيدي “الرجل الذاكرة والموثق وأحد أعلام التنوير والإصلاح في تونس بمناسبة مرور خمسين عام على وفاته”.
ومن أبرز أهداف تنظيم هذه اللقاءات، وفق المي، هو التوثيق، فمن خلال دعوة مجموعة من الباحثين والنقاد والجامعيين للمشاركة في هذه الندوات لدراسة المنجز الأدبي أو الشعري للمحتفى به ومحاورة الأديب أو تقديم مقاربات عن أدبه ومنجزه الشعري أو النثري، ثم تضمين أعمال الندوة في إصدار يكون منتدى الفكر التونسي قد حقق أهم أهدافه، مشيرا في السياق ذاته إلى صدور عدد خاص من مجلة الحياة الثقافية حول نافلة ذهب، وسيصدر تباعا مضمون ندوة تكريم الأديب حسن نصر وكذلك الشاعر منصف المزغني قائلا إن توثيق هذه الندوات “أهم من مجرد التكريم بمنح الورود والشهادات للمحتفى بهم”.