هدأت الساحة السياسية في تونس، ولو قليلا، عقب منح الثقة لحكومة هشام المشيشي وتوليها مقاليد الإدارة لكن مرجل الصعوبات الاقتصادية لا يزال يغلي محركا الشارع ومطلقا تحذيرات الخبراء من مزيد اختلال توازنات البلاد.
هذه التوازنات التي ما إنفك المشيشي يتحدث عنها منذ بيانه الحكومي وعلى امتداد تصريحاته، يراها خبراء الاقتصاد ومن بينهم الاقتصادي محسن حسن، أمرا صعبا في ظل اقتصاد قطع شريانه الوريدي المتمثل في الفسفاط والنفط وعمقت جائحة كورونا، امراضه المستعصية.
وتستقرأ (وات) في هذا المقال، من خلال طرح حزمة أسئلة على الخبير الاقتصادي ووزير التجارة السابق، محسن حسن، ملامح الوضع الاقتصادي ومتطلبات الخروج والسيناريوهات المحتملة لمزيد الانحدار.
وفي المجمل يرى حسن، ان اقتصاد تونس لن ينتعش ولن تخرج البلاد من أزماتها المالية، التي ربما ستتفاقم أكثر فأكثر، الا اذا توفر الاستقرار السياسي وتوجهت إرادة السياسيين صوب الملفات الاقتصادية مع ترك الخلافات السياسية جانبا وتوحيد الجهود لإيجاد حلول اقتصادية.
ولتحقيق هذا الهدف يجب ان تعي كل من القيادات السياسية والنقابية والمجتمع المدني وعامة الشعب بأن تونس مهددة اقتصاديا وماليا علاوة على نجاح البلاد في التحكم في ازمة كوفيد-19 وفق حسن الذي اعتبر ان العودة الى الحجر الصحي الشامل ستكون “الكارثة الاقتصادية”.
// تونس : أوضاع غير مسبوقة وكوابيس وصف حسن الوضع الاقتصادي والمالي في تونس وخاصة المالية العمومية، “بانه من أخطر الوضعيات تقريبا” خاصة وان سنة 2021 ستكون أصعب سنة مالية في تاريخ تونس في ظل وضع سياسي “غير مسبوق” يتسم بتنازع السلطتين التنفيذية والتشريعية وتناحر الطبقة السياسية.
واكد حسن، ان المؤشرات الاقتصادية دخلت النطاق الأحمر، حيث انكمش الاقتصاد، مع نهاية الثلاثي الثاني من 2020 بنحو21 بالمائة وتقلص الاستثمار بأكثر من 5 بالمائة والاستهلاك الأسري ب8 بالمائة والواردات ب 10 بالمائة. وباتت أغلب المؤسسات العمومية في حالة إفلاس غير معلنة،وفق حسن، الذي يعتقد “ان الشروع في هيكلتها سيتطلب ضخ 10 مليارات دينار حتى تصل مواردها الذاتية الى مستوى الصفر كما ستتعمق أزمة القطاع السياحي في حال تفاقمت ازمة كوفيد-19.
وتوقع الخبير ان تشهد موارد الدولة في سنة 2021 مزيدا من التراجع أولا بسبب تقلص الموارد الجبائية المتاتية أساسا من الآداء على المرابيح المحققة في سنة 2020 وعدم ضخ استثمارات وتراجع قطاع زيت الزيتون لموسم 2021 مقارنة بما هي عليه الآن”. وبخصوص الاقتراض الخارجي، اشار حسن الى ان تونس تمكنت فقط من تعبئة 4 مليارات دينار من صندوق النقد الدولي في إطار حقوق السحب الخاصة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي من جملة 9 مليارات دينار مبرمجة في ميزانية 2020.
وستجعل الوضعية الاستثنائية لسنة 2020 ، البلاد في حاجة اكبر الى القروض الخارجية بنحو 5 مليارات دينار إضافية وبالتالي فان تونس مطالبة بتعبئة قروض خارجية قبل نهاية السنة بقيمة 10 مليار دينار ، “وهو امر يراه حسن “صعب جدا” مما سيجعل العجز في ميزانية 2020 في مستوى قياسي. ويذهب حسن الى القول: “ان تونس فشلت فشلا كليا في الاستفادة من أزمة كوفيد 19 لتعبئة موارد مالية خارجية بشروط ميسرة، فالقرض الذي حصلت عليه من صندوق النقد الدولي تم ضمن حقوق السحب الخاصة”.
وتابع حسن في ذات السياق، “كان من المفروض ان تفعل الحكومة المتخلية الدبلوماسية الاقتصادية للحصول على مساعدات وتمويلات بشروط ميسرة من شركاءنا ومجموعة العشرين والمؤسسات المالية العالمية”. لكن حكومة الياس الفخفاخ التي اشرفت على ادارة ازمة كورونا مع بداية تفشيها مطلع العام الجاري ، تبنت خيارا آخر حيث أعلنت انها لن تلتجئ الى الديون الخارجية “وهي غير قادرة على ذلك” وفق حسن.
وتبنت حكومة الفخفاخ خيارين خاطئين أولهما الترفيع في الاقتراض الداخلي عبر برمجة تعبئة 5.5 مليارات دينار من السوق الداخلية التي لاتتجاوز قدرتها على تمويل الدولة 2.5 او 3 مليارات دينار مما يحد من قدرة السوق المالية والنظام البنكي على تمويل الاستثمار”. وخيرت حكومة الفخفاخ، كذلك، ايقاف الاقتراض عبر ترفيع الضغط الجبائي “وهذا امر خاطئ يتناقض مع تمشي الاصلاح الجبائي الذي يقوم على تخفيف الضغط الجبائي وبالتالي فهو يؤدي الى مزيد من التهرب الضريبي، وفق تحليل الخبير. وستجابه تونس تراجعا في تحويلات التونسيين في الخارج نظرا الى الوضع الغامض في أوروبا وتداعيات ازمة كوفيد -19 الذي لا يزال يهدد الاقتصاد العالمي.
وسيشهد الانفاق الحكومي ارتفاعا يعود الى تطور خدمة الدين لسنة 2021 ب1 مليار دينار مقارنة مع سنة 2020 وتنفيذ الحكم التحكيمي النهائي لقضية البنك التونسي الفرنسي الذي سيكون جاهزا في أول سنة 2021 ” ويري حسن الذي ابدى تحفظا عن ذكر بعض التفاصيل المتعلقة بملف البنك التونسي الفرنسي، ان الامر سيكون “كارثيا ” بالنسبة للمالية العمومية وستكون تونس مطالبة بتخصيص هذه التعويضات في قانون المالية لسنة 2021.
وستشهد مخصصات الدعم بدورها زيادة متأثرة بارتفاع عدد المحتاجين في تونس وأسعار البترول، التي قد تعود للارتفاع، والمواد الغذائية أيضا مما سيشكل ضغطا على الحكومة الى جانب امكانية مطالبة الاتحاد العام التونسي للشغل بالقسط الثالث من الزيادات في الأجور.
– أوليات المشيشي ومقالب السياسة
شدد محسن حسن على ضرورة الاتفاق مع البرلمان على برنامج “الانعاش الإقتصادي” والمصادقة عليه لتحقيق هذه الأولويات في ظل مؤشرات ايجابية أرسلتها حكومة المشيشي تكمن في مواصلة الدفاع على هذا البرنامج المقترح من حكومة الفخفاخ “. ولتفعيل هذا البرنامج يتعين ، داخليا، تحقيق الاستقرار السياسي الاجتماعي والأمني والتحكم في جائحة كورونا .
واكد حسن، ان “أوليات المشيشي ، تعد جيدة وهامة لكن يتعين الانتهاء من قانون الإنعاش الاقتصادي لايقاف نزيف المالية العمومية والحد من تدهور القطاع العمومي وبعث روح جديدة واعادة الثقه للمستثمرين. كما ان قانون الانعاش الاقتصادي يعد ” ضرورة للحد من مخاطر ثورة اجتماعية باعتبار انه من المفروض ان يوفر الحد الأدنى المطلوب للفئات الاجتماعية الهشة و يرمم المقدرة الشرائية للمواطن والتي تحتاج الى الرفع فيها وليس الابقاء عليها في وضعها القائم .
كما سيتيح قانون الانعاش الاقتصادي “ايقاف نزيف الانفاق الحاصل سنة 2020 على امل التوقي من مخاطر محتملة سنة 2021 التي تعد سنة المخاطر بامتياز على المستويات المالية والاقتصادية والاجتماعية. واكد حسن انه على يقين “ان الاصلاح الجبائي الحقيقي الذي يقوم على التخفيف في الضغط الجبائي يؤدي مباشرة الى ارتفاع موارد الدولة من خلال توسيع القاعدة الضريبية”.
ومن جانب اخر يرى حسن، ان البنك المركزي التونسي لابد ان يمول خزينة الدولة مباشرة ليس عن طريق البنوك وبالتالي أصبحت مراجعة القانون الاساسي لهذه المؤسسة ضرورة قصوى أسوة بما يحدث في مصر والمغرب وعديد الدول”.
ويطرح حسن، في سياق توصياته، خيار الاكتتاب الوطني لكن بشروط “مقبولة “خاصة وان حكومة الفخفاخ كانت قد أعلنت على اكتتاب وطني بشروط “غريبه” كالقيمة الاسمية ب100 الف دينار”. ويرى حسن انه يتعين مواصلة اصلاحات المتعلقة بمجلة الصرف وفتح الحسابات بالعملة الصعبة للتونسيين والقانون الاقتصادي الاجتماعي والتضامني وقانون الادماج المالي والمبادر الذاتي وغيرها “. ودعا الدولة الى تحريك عجلة الاستثمار من خلال تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص “وهنا لا بد من مراجعة الاطار القانوني لهذه الشراكة ولابد ان تنكب الحكومة على معالجة الاخلالات وخاصة التمويل في ظل ضعف الموارد الذاتية للمستثمرين “.
وتشكو اغلب شركات رأس مال المخاطرة الصناديق الاستثمارية من ضعف مواردها الذاتية مما يستوجب وضع خطوط تمويل الى جانب مراجعة نسبة الفائدة الموظفة على القروض البنكية خاصة وانها لا تدفع بأي حال من الأحوال تنافسية المؤسسة التونسية. //تونس : صيد الفرص واضاعة المكاسب قال محسن حسن “ان منظومة سلاسل القيم العالمية قد تغيرت في اتجاه اعادة توطين الاستثمارات في البلدان الأوروبية وتقليص استثمارات هذه الدول في الصين وبلدان جنوب شرق آسيا”. “لكن تونس لحد الآن لم تقدم سياسة واضحة للاستفاده من هذا التوجه العالمي ولونتحرك بسرعة فان تونس قادرة على ان تكون مركزا صناعيا القطاعات ذات القيمة المضافة مما يتطلب سياسة قطاعية وتكون لديها استراتيجية قائمة ” على حد تعبير حسن. ويعد تعطيل انتاج وتصدير الفسفاط والبترول وهو مكسب تونس الحقيقي وليس فرصتها، جريمة في حق تونس بل ان الحكومة غير القادرة على حماية الانتاج هي غير قادرة على حماية تونس” على حد تعبير الخبير محسن حسن. وتعيش تونس، منذ عدة اشهر بل سنوات ، على وقع تعطيل لقطاع الفسفاط وكذلك البترول مما حرم البلاد من ايرادات بالعملة الصعبة وافقدها اسواقها التقليدية لكن الحكومات المتعاقبة فشلت في ايجاد حل للملف سواء عبر تفاهمات او عبر قوة الردع. تبدو سنة 2021 ، سنة كبيسة على اقتصاد تونس على مستوى الانفاق والاقتراض سيدخلها صانعو القرار معتمدين على أولويات خمس وبرامج وسيتحتفي بها الشارع ككل السنوات على أمل تخف وطأة الضغوط يوما ما وتعود عجلة الاقتصاد الى الدوران ، فهل ستدور العجلة حقا ؟