“قفا نبك من ذكرى الغلاء المشتعل فلست أراه عن قريب ينجلي” بهذه العبارات الساخرة عبّر الحاج محمد، رجل في العقد السادس من عمره، عن امتعاضه من غلاء المعيشة والزيادات المتواترة في الأسعار بعد أن التقط أنفاسه في غمار جولة مطولة بين رفوف إحدى مغازات العاصمة بحثا عن أرفق الأسعار تلبية لحاجيات يومه وقوت أسرته، لم يجن منها سوى النزر القليل من منتجات طالها شطط الأسعار.
تساءل الحاج محمد عمّا إذا كانت الحكومة تنوي وقف هذا النزيف الذي أثقل كاهل المواطن وفاقم من عجزه عن ضمان عناصر الحياة الكريمة. “نحن نستفيق يوميا على زيادات جديدة غير مدروسة تراعي مقدرتنا الشرائية علما وأنني متقاعد ومعاشي لم يعد يلبي حاجياتي من الدواء فانا أعاني من مرض مزمن، إضافة إلى مصاريف أسرة أعيلها”.
“أحمّل المسؤولية كاملة إلى رئيس الحكومة ومجلس نواب الشعب الذين اثبتوا عجزهم التام عن تسيير دواليب الدولة، واغرقوا البلاد في الديون ليدفع والمواطن ضريبة فشلهم، وان استمر الحال على ما هو عليه فنحن على وشك أن نعيش ثورة الجياع من جديد لعلي بن غذاهم، في بلد يزخر بالثروات الطبيعية المهدرة”.
عبارات الحاج محمد، استوقفت فخر الدين، متقاعد هو الآخر، ليعلّق متهكما بصوت استقطب أنظار من كان بالمغازة “في تونس الكل يعاني، كيف لا والزيادات المتتالية سحقت الطبقة المتوسطة وفاقمت من معاناة الطبقة الفقيرة، ساستنا بعيدون كل البعد عمّا نعانيه اليوم وسنتحمل اوزار هشاشة الحكومات المتعاقبة لأجيال قادمة”.
وأردف القول بتشنّج ارتسم على سحنته، كالمغالب كابوسا جثم على صدره وأطبق على السواد الأعظم من العائلات التونسية، “نحن لم نعد نطمح للرفاه أو للسياحة في بلادنا، هاجسنا الوحيد القدرة على دفع فواتير الماء والكهرباء واستكمال بقية الشهر الذي نادرا ما يمضي دون اقتراض”.
يعيش الشارع التونسي مؤخرا حالة من الغليان دفعت نحو إطلاق دعوات ملحة على موقع التواصل الاجتماعي، “فايسبوك” منها صفحة “قاطع الغلاء تعيش بالقدا” و صفحة “لوست اند فواند تونس” للخروج إلى الشارع تنديدا بالزيادات المشطة التي شملت المواد الغذائية والنقل وفاتورة الماء وحتى بعض المواد المدعمة، في وضع اعتبره البعض تفقيرا ممنهجا للشعب عبر الرضوخ إلى املاءات الجهات المانحة، في إطار حزمة الإصلاحات المجحفة تهدف إلى خفض العجز في الموازنة، معتبرين أن الشعب يدفع ضريبة فشل الحكومات المتعاقبة.
بخطى متثاقلة نال منها التعب بعد جهاد يوم من العمل كمعينة منزلية بأحد الأحياء الراقية بالعاصمة، حثّت ياسمينة، وهي العقد الخامس من العمر، خطاها صوب محطة النقل تحاول اللحاق بركب حافلة ندر وأن تأتي في موعدها…صادرنا منها بعض اللحظات، التقطت أنفاسها من شدة التعب قائلة بكل مرارة “وليت نستحايل على الدنيا باش انجم نعيش”.
“اعمل منذ الثامنة صباحا كمعينة منزلية قادمة من منطقة سيدي حسين بالعاصمة كي استطيع توفير قوت ثلاث من أبنائي، خاصة وأنني العائل الوحيد للأسرة، لم اعد اقدر على توفير بعض المواد الغذائية كالدجاج أو البيض لأسرتي، بعض الأطباق أصبحت موسمية بالنسبة لنا”.
وتابعت ياسمينة “أنا لا اعمل على مدار السنة واجد نفسي في معظم الوقت في حالة بطالة”، متسائلة “بمثل هذه الزيادات هل أخذت الدولة بعين الاعتبار الفئات الهشة، صدقا لم نعد نحتمل هذا الوضع ”
// إعلان حرب من قبل الحكومة على قوت الشعب//
قوبلت الزيادات الأخيرة بإدانة من قبل الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي اعتبر وفق ما ورد على لسان ناطقه الرسمي، سامي الطاهري، في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، أنّ هذه الزيادات اتخذت من جانب واحد دون استشارة المنظمة الشغيلة.
وأرجع الطاهري الإجراءات التي تم إقرارها إلى “عجز الحكومة” عن التغطية على عجز الميزانية عبر إثقال كاهل المواطن وتهرئة مقدرته الشرائية، وهي مقدمة من المقدمات لضرب مبدأ الدعم الذي كان من المفروض التفاوض بشأنه مع الاتحاد وفق الاتفاق الإطاري الذي تم توقيعه من الحكومة بتاريخ 31 مارس 2020.
وكشف الطاهري ، أن الاتحاد بصدد التعبئة استعدادا لاجتماع الهيئة الإدارية الوطنية التي ستنعقد وسط الأسبوع القادم، لاتخاذ قرارات تصديا لسياسة الحكومة، ليس فقط فيما يقتصر على الأسعار، وإنما لاستهدافها للمؤسسات العمومية وللملك العام ومن ذلك الملك الفلاحي، وعلى خلفية الالتزامات التي قدمتها لصندوق النقد الدولي والتي لا تزال مجهولة ولم تصارح بها الشعب.
// تونس أصبحت كالجسم العليل ولابد من إجراء أكثر من عملية //
من جانبه، أقر الخبير الاقتصادي محسن حسن بان تونس تعيش أزمة غير مسبوقة متعددة الأوجه، أفضت إلى سحق القدرة الشرائية للمواطن، وتآكل الطبقة الوسطى، وإعادة تشكل المجتمع التونسي من جديد بين طبقة ميسورة حسب قوله اختارت نهج التهريب أو السوق الموازية والقطاعات الريعية، وطبقة فقيرة تتكون من اغلب أبناء الشعب.
ويتطلب الوضع الاقتصادي والمالي الحالي، حسب الخبير، الشروع الفعلي في القيام بعديد الإصلاحات حتى وان كانت موجعة وذات كلفة اجتماعية، قائلا “تونس باتت كالجسم العليل الذي يشتكي من عديد الأمراض المزمنة والعلاج يتطلب الدخول إلى قاعة العمليات لإجراء أكثر من عملية”.
وشدّد على وجوب إصلاح منظومة الدعم حيث خصصت الدولة سنة 2021، 4ر3 مليار دينار لنفقات الدعم المباشر وهو ما يعادل 3ر8 من مجموع نفقات الدولة، و 8ر2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة ب 5ر1 مليار دينار من نفقات الدعم سنة 2010، وما يمثل 5ر1 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى إصلاح منظومة الدعم الغير مباشر للمؤسسات العمومية.
وذكر حسن، بان مجموع الدعم المباشر وغير المباشر لسنة 2021، قدر ب 7 مليار دينار وهو ما يعادل 5ر13 بالمائة من نفقات الدولة، مقارنة ب 186ر6 مليار دينار من نفقات الدولة سنة 2020، وهو ما يعادل 12 بالمائة من نفقات الدولة، و 5ر5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وبالنظر إلى الأزمة المالية التي عرفتها البلاد خلال السنوات الماضية والتي من المتوقع أن تتواصل إلى حدود سنة 2025، وفق تقدير الخبير الاقتصادي، فإن نفقات الدعم أصبحت تشكل عبئا على ميزانية الدولة، مؤكدا أن المنتفعين بالدعم هم الأكثر استهلاكا والأكثر ثراء بمعنى أن 20 بالمائة من نفقات الدعم لا تذهب إلى مستحقيها، بينما ينتفع بالـ 80 بالمائة المتبقية، ميسورو الحال والسياح والمستثمرون الأجانب وأصحاب المؤسسات الكبرى الخاصة.
واعتبر حسن، في ذات السياق، أن منظومة الدعم الحالية تشجع على التهريب للأقطار المجاورة نظرا لفارق السعر، وانتشار الفساد، وضعف الدولة، وهو ما يقتضي التدرج في إصلاحها، ومراعاة الوضع الاجتماعي، وتحقيق وفاق وطني حول منهجية الإصلاح والتحويلات النقدية لفائدة مستحقي الدعم.
واقترح تفعيل برنامج تأهيل مسالك التوزيع ومقاومة التهريب ووجوب تجريمه، عبر تطوير التشريعات ومراجعتها وتحويل الإدارة العامة للمراقبة الاقتصادية إلى جهاز يتمتع بالاستقلالية المالية والإدارية تحت إشراف وزارة التجارة، قائلا “لا مجال للانطلاق في إصلاح منظومة الدعم قبل تطوير منظومة الرقابة الاقتصادية”.
كما اقترح في باب الإصلاحات، اعتماد سياسة تقفّي الأثر للمواد المدعمة بما في ذلك الأدوية وتطوير رقمنة منظومة الدعم، ووضع جدول زمني ملزم للانتهاء من وضع منظومة المعرّف الوحيد. كما اوصى بالاستئناس بالتجارب الدولية التي من شانها أن تؤدي إلى وضع قاعدة بيانات متحركة لمستحقي الدعم علاوة على الاتفاق وفق قواعد علمية حول طريقة احتساب التحويلات النقدية لفائدة المنتفعين بالدعم ومراجعتها دوريا واستعمال النقديات والتقنيات الحديثة للتحويل وكذلك آليات الدفع المتطورة.
وأكد الخبير الاقتصادي، على وجوب أن تكون الزيادات في الأسعار مدروسة وممنهجة ومتدرجة وليس بشكل اعتباطي، وبالتوازي مع القيام بالتحويلات النقدية، لافتا الى أن كل الدراسات والتجارب قد أثبتت أن الكلفة الاجتماعية والمالية نتيجة للتسرع في رفع الدعم كانت باهضة جدا.
// انحدار اجتماعي حقيقي خلف الزيادات الأخيرة //
اعتبر عالم الاجتماع عبد الستار السحباني أن الزيادات الأخيرة تعد مشطة ومختلفة مقارنة بسابقاتها، حيث خلفت نوع من الاضطراب والتذمر المعلن لدى عامة الشعب من مجتمع مدني وسياسي ومنظمات وطنية.
وحذّر السحباني من التداعيات الاجتماعية للزيادات الأخيرة، في هذا الظرف الدقيق الذي يتميز بانعكاسات أزمة كوفيد-19 على القطاعات الهشة، إضافة إلى انعدام الاستقرار الاقتصادي وغياب رؤية واضحة في ظل الخلافات المتأجّجة بين الرؤساء الثلاثة، ما سيزيد من تدهور المقدرة الشرائية للمواطن ولا سيما الطبقة الوسطى والفقيرة، وتابع مؤكدا “إننا نتوجه رأسا نحو انحدار اجتماعي حقيقي هذه المرة”.
ورأى أن الزيادات الأخيرة غير تنموية، ولا تساهم في تعافي الاقتصاد، وهي ستشجع على العمل الموازي وهو ما من شانه أن يزيد في وتيرة التهريب ويدفع بالمستهلك إلى التعامل مع الأسواق الموازية لاسيما وان المواد المعروضة دائما في الأسواق ليست جيدة ولا تستجيب إلى المواصفات المطلوبة، وهي تدفع كذلك في اتجاه الحد من قدرات المؤسسات على الإنتاج وانكماش أسواقها.
وأردف بالقول، “حكوماتنا لم تستق دروسا من الماضي حين قوبل الترفيع في الأسعار بوابل من الاحتجاجات، والزيادة الأخيرة توفر لبنة اجتماعية حاضنة للاحتجاج تنتظر القادح لا غير”.
وحثّ السحباني على ضرورة انصات السلطة إلى حاجيات المواطن والقطع مع مركزية القرارات غير المدروسة، وتشريك المجتمع السياسي والمدني بكل أطيافه في اتخاذها في ظل الوضع الحرج الذي تمر به البلاد المتسم بهشاشة الاقتصاد واقتراب الموجة الرابعة من كوفيد-19، فضلا عن خطر الإرهاب الذي لازال قائما، ما سيفضي وفق تقديره، إلى حالة من الهستيريا الجماعية يعيشها المجتمع التونسي.
وشدد في ذات السياق، على وجوب اتخاذ إجراءات سريعة وعاجلة لتعديل الأوضاع خاصة بالنسبة للشرائح الاجتماعية الهشة في ظل أزمة معلنة، ستقفز بالجريمة والعنف إلى مستويات غير معهودة، خاصة في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلة النائية.