أقرّ مؤسس النقابة التونسية للفلاحين، ليث بن بشر، بأن واقع القطاع الفلاحي في تونس، ينذر في ظل تبعات تراجع دخل الفلاحين وتآكل هوامش ربحهم، بإفلاس أكثر من منظومة، من بينها منظومة تربية الماشية، ويهدد بجدية نجاح تونس في تأمين سيادتها الغذائية، مشددا على أنه لا سبيل لدفع التنمية وضمان التوازن الجهوي دون إيلاء الفلاحة أهمية قصوى، وهو ما يقتضي نظرة تشاركية شاملة، والاعتراف بدور الفلاحين ومكانتهم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، علاوة على تطوير التشريعات.
واعتبر بن بشر، في حديث خص به “وات”، أن الوضع الفلاحي في تونس أضحى “صعبا جدا”، نتيجة عديد المشاكل الهيكلية التي تأخرت حلولها، مشددا على أن القطاع في أمس الحاجة إلى صياغة سياسة فلاحية وغذائية متكاملة ومتجانسة لأفق 2030، بعيدا عن الحلول الترقيعية، لتساهم في تحسين أوضاع الفلاحين وفي تنمية الأرياف وضمان الأمن الغذائي المستدام.
وفي ما يلي نص الحوار مع ليث بن بشر:
وات: كيف يمكن تجاوز الأزمة التي يشهدها القطاع الفلاحي اليوم؟
بن بشر: رغم النجاحات المحققة في المجال الفلاحي منذ الاستقلال، سواء على مستوى البنية التحتية أو تعبئة الموارد المائية، أو على صعيد تطور المردودية في عديد القطاعات، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة، إلا أننا لم ننجح في ضمان استقرار معدلات الإنتاج، خاصة في الزراعات البعلية من الحبوب والزياتين والأعلاف وغيرها، والتي تمثل الركيزة الأساسية للاقتصاد، وتغطي ثلاثة أرباع المساحات المزروعة. وفضلا عن ذلك، فإن الاكتفاء الذاتي المسجل في قطاعات الألبان واللحوم البيضاء، لا يزال هشا، لأنه يرتكز في جانب كبير منه على نسبة عالية من توريد الأعلاف من ذرة وصوجا.
وفي ظل هذه الوضعية، فإن الخاسر الأكبر، هو الفلاح، الذي يجد نفسه في حيرة تتعمق من سنة إلى أخرى أمام ارتفاع تكاليف الإنتاج وتدني المردودية التي تفاقم من حدة المديونية وتعيق الاستثمار، في ظل غياب شبه تام للدعم ما عدى بعض الحلول الظرفية التي لا تفي بالحاجة.
نحن اليوم مطالبون بتطوير الإنتاج بما يستجيب لمتطلبات المجتمع وبما يكفل الدخل اللائق للفلاح، من ناحية، وضمان حسن التصرف في الموارد الطبيعية من مياه وتربة لضمان ديمومة النظم الإنتاجية، من ناحية أخرى، وهي معادلة صعبة مع تزايد وطأة الاحتباس الحراري الذي تتضح آثاره مع تواتر سنوات الجفاف التي تعصف بجهد الفلاحين وتربك التوازنات العامة للبلاد.
برأيي أنه لابد من إعادة النظر في النظم الزراعية بما يضمن استدامتها، ومراجعة أساليب التصرف في المنظومات الفلاحية كي تكون أنجع انطلاقا من البحث العلمي واستنباط الأصناف وصولا إلى مسالك التوزيع ومرورا بالتكوين المهني ودعم انتصاب الشباب عبر هياكل مهنية مشتركة تضم مختلف الفاعلين باعتبارها الطريقة الوحيدة للارتقاء بالإنتاج الفلاحي والسبيل الأمثل للوقاية من الهزات والأزمات في قطاعات مثل الألبان أو الطماطم أو غيرها.
اليوم لا يوجد خيار سوى تحرير الطاقات الوطنية عبر سياسة فلاحية تشاركية تتسع لكافة الفاعلين، لا سيما وأن تونس مقبلة على مفاوضات مصيرية مع الاتحاد الأوروبي في هذا المجال. علما وأن الفلاح الأوروبي يتحصل على معدل 10 آلاف دينار سنويا في شكل دعم، فضلا عن الإحاطة الشاملة التي يجدها عند حدوث الأزمات والكوارث، بغاية إيجاد الحلول الناجعة للنهوض بالفلاحة وضمان مصلحة الفلاحين.
وات: ماهي الرهانات المطروحة حاليا في القطاع الفلاحي؟بن بشر: نحن اليوم في تقاطع ثلاثة رهانات، أولها الرهان الاقتصادي، فالفلاحة تساهم بما يقارب 10 بالمائة في صنع الثروة الوطنية وتشغل ما لا يقل عن 18 بالمائة من اليد العاملة ولا تستأثر في المقابل الا ب 10 بالمائة من الاستثمارات العمومية، بينما لا يتمتع بالتمويل البنكي سوى 7 بالمائة من مجمل الفلاحين.
كما نجد الرهان الاجتماعي، حيث أن الفلاحين من بين الفئات الاجتماعية الأقل اعتبارا، رغم دورهم في إنتاج الغذاء وفي التشغيل وفي التوازن الجهوي. فإلى متى سيقع تهميش دور الفلاح لا سيما وأن الميثاق الاجتماعي لم يعر الفلاحة ولا القائمين عليها سوى مكانة هزيلة ؟، وأي قراءة لمجلة استثمارات، تكشف لنا أن المنحى الليبرالي قد طغى عليها دون الاكتراث بخصوصية الفلاحة التونسية التي يغلب عليها الطابع العائلي.
أما الرهان الثالث فيتمثل في الرهان المهني، فمهنة الفلاح لا تزال دون تعريف قانوني، مما يساهم في تهميش أصحابها وفي الاعتراف بالفلاحة كمهنة مستقلة بذاتها، وضمان كرامة الفلاحين الذين عانوا طيلة عقودا من التهميش والوصاية. كما يتوجب إصلاح وضعية مواصلة الدولة السماح باستمرار احتكار منظمة مهنية، مهما، كانت للشهادة المهنية، علاوة على ما يسببه ذلك من إهدار للمال العام، كما هو الشأن بالنسبة لتوزيع الأعلاف المدعمة.
وات: هل أن الزيادة الاخيرة في أسعار القمح والشعير مشجعة لتحقيق الأمن الغذائي، في ظل الاضطرابات التي يشهدها العالم وبالتحديد الحرب الروسية الأوكرانية ؟
بن بشر: كي نكون موضوعيين، الزيادة الأخيرة في أسعار القمح والشعير ليست وليدة الحرب الروسية الأوكرانية فقط، بل ترجع إلى أواخر سنة 2021، لتعمق الحرب الأخيرة الأزمة، لا سيما وأن تونس تستورد القمح اللين من أوكرانيا، وهو ما عمق من أزمة الاحتكار والمضاربة والانكماش، وما سيترتب عنها من انعكاسات سلبية خلال الأشهر القادمة.
إن كلفة إنتاج الحبوب أصحبت تثقل كاهل الفلاح، في ظل تآكل هامش الربح جراء الزيادات في المدخلات المباشرة في عملية الإنتاج، على غرار الأسمدة والمحروقات، فضلا عن ارتفاع كلفة النقل، وهو ما دفع بالفلاحين إلى المطالبة بمراجعة أسعار القمح، خاصة اللين، باعتباره أكثر صنف مستورد ويتم استهلاكه، وبالتالي باتت الحاجة ملحة إلى الحرص على تحقيق الأمن الغذائي من هذه الموارد كي يتسنى مجابهة تأثير المتغيرات العالمية الطارئة.
وات: الى أي مدى ساهمت الزيادة في أسعار الأعلاف مؤخرا، في إثقال كاهل الدولة وفاقمت تغول الشركات الموردة؟
بن بشر: كان من المقرر إقرار الزيادة في أسعار الأعلاف منذ شهر فيفري 2022، ووقع تأجيل الإعلان عنها إلى حدود الفترة الماضية، والتي تنذر بدورها بزيادات مرتقبة في أسعار بيع الدواجن والبيض والحليب ومشتقاته، وهو ما أثار حفيظة الفلاحين في عدد من ولايات الجمهورية الذين احتجوا رفضا للزيادة المشطة وغير المسبوقة في أسعار الأعلاف، والتي تعتبر تهديدا مباشرا لمنظومة الإنتاج الحيواني ولقوت الشعب وللسيادة الغذائية وللسلم الاجتماعي.
لقد ساهمت تحركات الفلاحين في الضغط على الدولة للتراجع عن هذا القرار المجحف في حقهم والتعهد بمراجعة أسعار بعض المنتجات الفلاحية في اتجاه الترفيع فيها، بما يتلاءم مع كلفة الإنتاج. وجب الأخذ بعين الاعتبار تبعات أي زيادة يقع إقرارها على وضعية الفلاح، من جهة، وما لها من انعكاسات سلبية على المستهلكين في مرحلة لاحقة نتيجة ارتفاع الأسعار، من جهة أخرى.
وات: هل قدمت النقابة التونسية للفلاحين مقترحات جدية للحكومة الحالية للنهوض بالقطاع الفلاحي؟
بن بشر: لم ندخر أي جهد طيلة العشرية الماضية في مطالبة الحكومات المتعاقبة ومن تعاقبوا على كرسي وزارة الفلاحة بضرورة إيلاء الفلاحة وأصحابها الأولوية في سلم السياسات العمومية، والذي قوبل بغياب الرؤى الجوهرية، واستبدال المطلب بعملية تمويهية في مطلع سنة 2015 سميت آنذاك بالحوار الوطني ودامت لأكثر من ستة أشهر ولم تفض إلى أية نتيجة تذكر، طالما أن طرفي الحوار الوحيدين هما وزارة الفلاحة والصيد البحري واتحاد الفلاحين اللذين استفردا بالنقاش حول بعض الورقات مسبقة الإعداد، والمواصلة على ذلك المنوال إلى حد الساعة، وهو ما أدى إلى تراجع جل المنظومات الفلاحية وتأزم أوضاع الفلاحين.
ويتعين على الساسة وسلطة الإشراف إن يؤمنوا إيمانا قاطعا بأن الفلاحة شأن عام ولا يعني أصحاب المهنة فقط، وشأن المجتمع بأسره، وأن الرهانات المطروحة تفرض علينا أعلى قدر من العمل التشاركي بين مختلف المتدخلين في هذا القطاع الأساسي وأصحاب القرار.
ولابد أن نتعظ من آثار الأزمة الغذائية لسنة 2008 التي عمقت الفوارق الاجتماعية وأنهكت موازين الدولة، دون أن ترسم الأخيرة السياسات الكفيلة بضمان الأمن الغذائي على المديين المتوسط والبعيد، والقادرة على الرفع من مستوى عيش الفلاحين وأهل الأرياف والفئات الهشة عموما، ناهيك على ما نشهده من انكماش اقتصادي دون تعديل للمنحى التحرري في المبادلات الفلاحية. كما أن اهتزاز أسعار المواد الأساسية يحتم على الجميع دعم القدرات الإنتاجية وحماية المنتجات من التوريد غير المدروس، وهو ما يستوجب دون شك برنامجا طموحا لتأهيل الفلاحة وخطة لدعم قدرات الهياكل المهنية التي تعاني من وصاية غير مبررة ولا مجدية حتى يكون للفلاح دور في التحكم في منظومات الإنتاج، فضلا عما يضمنه هذا التمشي في تزويد منتظم وكاف للأسواق.
وات: يرى مراقبون أن قطاع الفلاحة بات محكوما ببعض اللوبيات التي تسيطر عليه، فكيف يمكن مجابهة هذه الإشكالية؟
بن بشر: لوبيات الفساد للأسف ليست حكرا على قطاع الفلاحة فقط، بل تشمل جل القطاعات، وهنا يكمن الدور التعديلي للدولة عبر اتخاذ القرارات الجريئة خاصة خلال فترة الأزمات التي تستفحل فيها سيطرة اللوبيات. لابد من مراجعة منظومات الإنتاج التي تشهد الكثير من التجاوزات، نتيجة سوء التصرف في نظام تحديد الأسعار واحتكار الدولة لمادة معينة، منها مادة الحبوب، بغاية ضمان تزويد الأسواق والأمن الغذائي.