مكاتب الصرف اليدوي ضخت 7 مليار دينار من العملة في الاقتصاد قاطعة الطريق أمام تغول السوق السوداء

ساهمت مكاتب الصرف اليدوي للعملة، التي اطلقتها تونس في اطار تعزيز موارد البنك المركزي من العملة وتقريب الخدمات البنكية للمواطن وخاصة الجالية المقيمة بالخارج، في تعبئة ما يقارب 7 مليار دينار من العملة خلال السنوات الاربع الاخيرة مستقطبة ما بين 40 إلى 60 بالمائة من الأموال التي كانت تتداول بالسوق السوداء وتوجيهها نحو السوق الرسمية ما اكسبها دورا فعالا في سوق العملة.

هذه الأرقام وردت على لسان نائب رئيس الجمعية التونسية لمكاتب الصرف اليدوي للعملة، كمال مقرش، في وقت لايزال فيه المراقبون للشأن الاقتصادي ينتظرون الوقوف على حقيقة دور هذه المكاتب، وتدفع فيه الحكومة بخطة اصلاحية في نطاق مراجعة مجلة الصرف التي تتضمن في أحد محاورها تطوير مكاتب الصرف اليدوي للعملة.

وبلغة الارقام يتوقع مقرش ان تسهم مكاتب الصرف اليدوي للعملة في رفع مساهمتها في الكتلة النقدية الى ما يضاهي 20 مليار دينار خلال السنوات الخمس المقبلة شريطة الاستفادة من التطورات التي تشهدها آليات الدفوعات الحديثة وتوسيع مجال تدخل هذه المكاتب لتشمل خدمات جديدة على غرار خدمات التحويل والدفع وذلك في نطاق تصور جديد لنشاطها.

وتحاور وكالة تونس افريقيا للانباء “وات”، في اطار مبادرة أسبوعية لتسليط الضوء على اهم محاور الاقتصاد الوطني، كمال مقرش، في محاولة لرصد تطور قطاع مكاتب الصرف اليدوي للعملة ودوره في خلق الثروة و تموقعه في بلد تنشط فيه السوق السوداء للعملة بالتوازي مع الجوانب المطلوب تطويرها لضمان ديمومة القطاع.

وات: اطلقت تونس خدمة مكاتب الصرف اليدوي للعملة بشكل متأخر نسبيا عن دول عربية كثيرة، كيف تقيمون التجربة بعد أربع سنوات ونصف من انطلاقها؟

مقرش: أولا سأذكر بالجانب القانوني المحدث لمكاتب الصرف اليدوي للعملة ألا وهو الفصل 54 من قانون المالية التكميلي لسنة 2014 المؤرخ في 19 أوت 2014 والامر التنفيذي عدد 1366 لسنة 2017 كما تم تنقيحه بالأمر عدد 593 بتاريخ 17 جويلية 2018 والذي حدد مبلغ الضمان البنكي وشروط قبول المترشح وتعاطي المهنة وكذلك منشور البنك المركزي عدد 7 بتاريخ 30 جويلية 2018 كما تم تنقيحه بالمنشور عدد 7 لسنة 2019.

ونلاحظ هنا طول المدة الفاصلة بين تاريخي صدور القانون ومنشور البنك المركزي التطبيقي والتي تقارب خمس سنوات كانت لو وقع اختصارها، تدر أموالا هامة للدولة من العملة الصعبة. فكل تأخير ينجر عنه في أغلب الأحيان عواقب ثانوية وهو ما حدث بالفعل اذ تلت فترة تفشي الكورونا، تعطل الانطلاق الفعلي لنشاط المهنة.

واشير الى أن موضوع احداث مكاتب الصرف بتونس تم التطرق إليه سابقا منذ سنوات 1999 و2000 من طرف السلط النقدية ولكن نظرا للظروف العالمية والمناخية في تلك الفترة ومن بينها حوادث 11 سبتمبر 2001 وسنوات الجفاف وانعكاساتها على السياحة العالمية، أرجأت السلط كما هو الشأن في البلدان المشابهة كالمغرب، التمادي في إنجازه.

ولا يخفي على أحد أن العملة الصعبة تدخل ضمن العمليات البنكية وتخضع لضوابط وشروط حفظ ونقل واستعمال مقننين وتفويض هذه العملية للأشخاص غير البنوك يتطلب قرارات جريئة وظروف ملائمة لم تكن متاحة على الساحة النقدية في تلك الفترة.

في المقابل وفي تلك الفترة، كانت دول عربية اخرى وخاصة دول الخليج، نظرا لنوعية المتعاملين هناك والمتكونة خصوصا من الجالية الآسيوية القادمة من دول تفتقر في أغلبها الى بنية تحتية بنكية كافية، قد طورت من عملها وأدخلت عليه إضافات تتعلق بعدة عمليات معوّضة بذلك البنوك في عدة مجالات كإصدار وصرف الحوالات وجلب المدخرين والمستثمرين للبنوك وخلاص الفواتير وإصدار بطاقات دفع منح سياحية وأجور العملة.. وهو ما عزّز دورها وضمن مردوديتها وديمومتها.

ورغم التشابه بين الوضعيتين فإن هذه الحالة غير ممكنة في تونس لانّ مكتب الصرف ينشط في رواق لا يستطيع الخروج منه ينحصر في التعامل اليدوي للعملة، فإذا كانت هذه العملة محمولة على بطاقة بنكية والمبلغ يفوق سقف السحب المحدد او حوالة ، لا يستطيع المكتب القيام بها .

وتدفع هذه الوضعية المتعامل إلى الانتظار إلى حين تفتح البنوك أبوابها في اليوم الموالي او بعد يوم السبت والاحد او بعد العيد في بعض الأحيان مما ينجر عنه في هذه الحالات فرص ضائعة وخسارة مباشرة للاقتصاد اذ يعزف المتعامل عن العملية او يسافر او يلتجأ لطرق اخرى غير قانونية.

وبشكل عام يمكن القول ان مكاتب الصرف في الخليج افضت الى تمكين مختلف شرائح المجتمع من النفاذ الى هذه السوق من خلال توفير خدمات التحويل والدفع الى جانب الصرف. كما انها ساهمت في فك عزلة المجتمعات الآسيوية وتمكينها من الولوج الى خدمة تحويل الاموال والادخار التي تقدمها مكاتب الصرف الخليجية.

وقد عرجت على تطور مكاتب الصرف في الخليج ، لتستقيم المقارنة مع الوضع في تونس والتي لاتزال تعيش تجربة وليدة لم تتخطي 5 سنوات تعود الى سنة 2019، مر خلالها القطاع بأزمة كوفيد 19 وهو ما يدفعني الى الجزم بأن الانطلاقة الحقيقة بدأت سنة 2022.

واخلص الى القول الى ان مكاتب الصرف اليدوي ساهمت في توفير خدمات في كل الأوقات وعدة أماكن كانت معزولة في زمن غير بعيد الى جانب تعزيز البنية التحتية المالية والنقدية وخلق ديناميكية جديدة في السوق بتوطيد العلاقة بين المواطن ومحيطه المالي والبنكي من خلال ادخال بعد انساني جديد مما يساهم في تدعيم مجهودات الحكومة التي تدفع في اتجاه تمكين كل مواطن من فتح حساب بنكي.

وات: يحتاج تمركز مكاتب الصرف اليدوي في تونس الى قراءة نقدية، اين ترون مكامن القوة في التجربة التونسية واين يكمن الضعف ؟

مقرش: سأحاول ان انطلق من الرقم المتعلق بعدد الموافقات، الى حد الآن، والتي تناهز 340 موافقة ممنوحة من البنك المركزي التونسي علما وان 304 مكتب دخل طور العمل، وهو مؤشر جيد يكشف عن تزايد وتيرة احداث المكاتب خاصة اذا ما علمنا ان القطاع كان يضم ما بين 18 و 20 مكتب سنة 2019.

لكن القاء نظرة على المجال الجغرافي للتوزيع يحيل الى تمركز للمكاتب بالعاصمة وولايات تونس الكبرى وبالسواحل وصولا الى مدنين وجربة. وتستقطب ولايات تونس الكبرى لوحدها زهاء 120 مكتب علما أن الجهات الداخلية لا تزال تشهد نقصا في احداث المكاتب .
وافضت هذه الحالة الى اشتداد المنافسة على مستوى العاصمة والسواحل بين المكاتب وهو ما قلص هامش الربح وادى الى تقليص المردودية مما يؤكد ان الاصلاحات يجب ان تدفع في اتجاه مزيد التحفيز على التوجه الى الجهات الداخلية مع منح المكاتب حزمة خدمات جديدة تتجاوز الصرف اليدوي للعملة وتتضمن خاصة عمليات التحويل والدفع .

ونحن على مستوى الجمعية التونسية لمكاتب الصرف لدينا 80 منخرطا في الوقت الحالي ونسعى الى جانب الحفاظ على هذا الهيكل الداعم للثروة من خلال تقليص هامش المناورة للسوق السوداء للعملة، وارساء بنية تحتية للصرف اكثر موثوقية والاقتراب اكثر من الحريف وبناء علاقات اكثر انسانية الى جانب ابلاغ مقترحاتنا الى السلطات المشرفة والمنظمة للقطاع.

والتحدي الكبير الذي نواجهه هو اننا لا نريد ان يعرف قطاعنا مصيرا مشابها لما عرفته بعض القطاعات الاخرى التي اندثرت مثل محلات الهاتف العمومي او مكاتب الانترنات، بل نأمل في إرساء منظومة استباقية تأخذ في الاعتبار تطور آليات الدفع الحديثة مثل بطاقات الدفع والدفع بالهواتف الجوالة والانترنات فمجال النشاط بالأروقة قد ولى ومن مخلفاته ما ذكرناه في ما يخص القطاعات المندثرة.

وات: اوردت في وقت سابق مصطلح السوق السوداء للعملة، ألم يسهم دور مكاتب الصرف اليدوي في كبحها ؟ وهل تزال تستحوذ على نصيبها من تداول العملات الأجنبية ؟

مقرش: اريد ان أوضح لكم ان مكاتب الصرف اليدوي، أصبحت مكونا أساسيا في الاقتصاد الوطني وفي خلق الثروة، صحيح اننا اخذنا جانبا من الحصة التي كانت لدى البنوك على مستوى سوق الصرف، والتي قدرتها الجمعية بنحو20 بالمائة لكننا أيضا نجحنا في ضرب السوق السوداء في اهم معاقلها واستحوذنا على حصة تتراوح ما بين 40 و 60 بالمائة وقمنا بإعادتها الى السوق النظامية.

ولكن للأسف، ولا نفشي سرا هنا، حين نقر بان السوق السوداء للعملة لاتزال تمتلك حصة تقارب 50 بالمائة وهذا ليس رأي شخصي بل ان التقارير الرسمية والخبراء يؤكدون ان السوق الموازية تسيطر على قرابة 60 بالمائة من الاقتصاد وبالتالي فإنها لاتزال فاعلة على مستوى السوق بعدة أشكال كالمقاصة وغيرها وعلى السلط ان تعمل أكثر على مجابهتها.

وبفضل امتصاص مكاتب الصرف للعملات الاجنبية فإن السوق السوداء ومع مخاوفها من عدم توفر العملات لديها تعمد الى الترفيع في الاسعار وهو ما يعد مؤشرا لنا بأن السوق السوداء تعيش تحت وطأة الضغط بفعل اكتساحنا لمعاقلها.

مع الاشارة الى ان غياب البنية التحتية للصرف اليدوي للعملة وخاصة في المناطق النائية والأرياف يجبر في جل الاحوال الحريف على التعامل في السوق السوداء، وبالتالي يتعين تطوير البنى التحتية لصرف العملة خاصة وان عملية بعث مكتب صرف غير مكلفة مقارنة بالاستثمار في الفروع البنكية او البريدية.

وكما يعلم الجميع فان اموال السوق السوداء يتم استثمارها في تمويل السلع والمحرمات والاسلحة والإرهاب خلافا للأموال التي تجمعها مكاتب الصرف حيث يتم وضعها حالا على ذمة البنك المركزي خالقة بذلك منذ سنة 2019 ثروة تقدر بنحو 6 بالمائة من الكتلة النقدية للبلاد.

كما أن بعض البنوك إثر تدني مداخيلها من العملة وخاصة منها العمومية والبريد أصبحت تزاحم مكاتب الصرف من خلال الترفيع في سعر شراء العملات ضاربة بذلك هامش ربح مكاتب الصرف فأصبحوا في مواجهة لا يقدرون عليها بما أنهم ينشطون في السوق الرئيسية، فحسب، على عكس البنوك التي تتحرك في السوقين الرئيسية والثانوية اين يتواجد الموردون والحرفاء من طالبي العملة.

وات: حجم السوق السوداء والحاجة الى كل سنت من النقد الاجنبي الا يتطلب توسيع دائرة تدخل مكاتب الصرف؟ وهل اطلعتكم السلطات على خطط اصلاح قطاع الصرف ؟

مقرش: لقد خضنا مشاورات ونحن نتشاور مع الاطراف المساهمة في اصلاح مجلة الصرف وابلغناها التحديات التي تواجه المهنة. كما قمنا بمدها باقتراحاتنا لمواكبة التطورات التكنولوجية ومتطلبات المتعاملين والمرحلة والتي باتت امرا ضروريا يتعين التعجيل بتنفيذه وكل تأخير يمثل خسارة في تعبئة موارد الدولة من العملة التي هي في أمس الحاجة اليها في هذه الفترة.

وتتصدر قائمة المقترحات تنقيح القوانين التي تؤطر لمكاتب الصرف اليدوي للعملة بما يجعل منها مكاتب متعددة التخصصات تشمل الى جانب خدمة الصرف اليدوي، صرف الاموال المحمولة على بطاقات الدفع والحوالات بالعملتين الاجنبية والدينار والهواتف الجوالة وغيرها مما يمكن من جمع اي مبلغ ولو ضئيل من العملة واصدار بطاقات دفع المنحة السياحية بالعملة.

وان عدم تمكين مكاتب الصرف من القيام بهذه الخدمات يكلف الدولة عدم الحصول على مبالغ هامة من العملة ذلك ان بعض الدول المجاورة تحمل المنح السياحية ومصاريف التداوي لمواطنيها على بطاقات بنكية او في شكل حوالات يتم صرفها بالخارج مما يدفعهم الى السفر الى تركيا والأردن ومصر اين يمكنهم القيام بصرف اموالهم بكل سهولة لدى مكاتب الصرف بهذه البلدان.

وبشكل عام فان الاقتصار على المفهوم الكلاسيكي للصرف اليدوي اي التعامل باليد فحسب في عصر اصبحت فيه العملة الكترونية وتحمل كتابيا على بطاقة بلاستكية او ترسل حول العالم الى كل متعامل منخرط في منظومة دفع على غرار خدمة “ويسترن يونين”، يمثل عائقا في وجه تطوير المهنة من شأنه ان يقلص من مداخيل الدولة من العملة وربما آلت الى السوق السوداء .

كما نقترح كذلك، تمكين مكاتب الصرف متعددة التخصصات في اطار الخطة الإصلاحية المنتظرة، من لعب دور عون دفع خاصة واننا جاهزون على المستوى اللوجستي للقيام بهذا الدور تدعيما لمجهودات مؤسسات الدفع في الانطلاق الحقيقي لنشاطها.

وأخيرا، بما ان مهنة الصرف ليست مهنة تكنولوجية عالية فإنه يمكن للتونسيين القيام بأعمالها على احسن وجه دون اللجوء الى راس مال اجنبي. وفي هذا السياق، قد اقترحنا على أصحاب القرار ان يخول بالمشاركة او احداث هذه المكاتب، الا لشخص تونسي الجنسية مقيم وان يحصل على موافقة من السلطات المختصة بالبنك المركزي التونسي.

وات: تلقى مكاتب الصرف عديد الانتقادات نظرا لعدم غياب المعطيات حول دورها الاقتصادي فهل يمكن ان تساعدنا اكثر في القاء نظرة عن كثب الى هذه المكاتب؟

مقرش: لا تحتاج مكاتب الصرف الى استثمارات كبيرة بالنظر الى الفروع البنكية وقامت حتى الآن، بخلق ثروة لفائدة الدولة قدرت بحوالي 7 بالمائة من الكتلة النقدية وهي تشغل تقريبا 1000 شخص بشكل مباشر يسهرون على 800 عائلة تقريبا، مما يؤكد دورها الاجتماعي والتنموي وخلق الثروة.

وسأختم بالقول ان شبكة مكاتب الصرف اليدوي، مستمرة في التوسع وانه يمكن في صورة توسيع النشاط الى التعامل بالبطاقات واطلاق خدمتي التحويل، بلوغ 400 مكتب صرف متعدد الاختصاصات وهذا سيسهم فعلا في تنفيذ خطة الحكومة المتعلقة بفتح حساب لكل مواطن.

اضف الى ذلك فان مكاتب الصرف تخضع الى مراقبة صارمة من قبل السلطة الرقابية ولا ادل على ذلك، من سحب 24 موافقة منذ سنة 2019 منحت لإحداث مكاتب صرف يدوي للعملة وبالتالي نحن نعمل تحت طائلة القانون ومراقبة السلطات على غرار البنك المركزي التونسي والديوانة التونسية .

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.