السيدة (م) هي إطار في مؤسسة عمومية، تم إدماجها سنة 2001 بموجب مذكرة إلحاق تتمتع بفضلها بكافة الامتيازات، إلا أنها تفاجأت بغياب وثيقة الإلحاق من ملفها وعدم احتساب أكثر من سنة كاملة ضمن مسارها المهني لتحرم من الحصول على ترقية وتتأخر في التدرج المهني.
توجهت السيدة (م) إلى المحكمة الإدارية التي أنصفتها وأصدرت حكما لفائدتها، إلا أن المسؤول الإداري في مؤسستها أخبرها بأن “هذا الحكم لا يعني شيئا ولا يعتد به وبالتالي يبقى الحال على ما هو عليه”.
هذه الوضعية هي واحدة من بين أحكام عديدة تصدرها المحكمة الإدارية، لتبقى حبرا على ورق، بالرغم من أنه “من المفروض أن يكون الحكم القضائي نافذا وليس لأي مسؤول إداري صلاحية الحكم بوجاهة القرار من عدمه”.
بعض الأحكام الإدارية التي لم تنفذ، أصبحت قضايا رأي عام ومازالت محل جدل ونقاش، ومن بينها الحكم إستعجاليا بنشر الاتفاقية الإطارية المشتركة للصحفيين بالرائد الرسمي في نوفمبر 2020، والحكم النهائي في القضية ذاتها في ديسمبر 2021 بعد رفض الاستئنافين المقدّمين من قبل كل من رئيس الحكومة والمكلف العام بنزاعات الدولة في حق رئاسة الحكومة.
ومن أهم الملفات الأخرى ضمن هذا السياق، قضية القضاة المعزولين (57 قاضيا) بموجب الأمر الرئاسي عدد 516 الصادر في 1 جوان 2022 بتهم بينها “تغيير مسار قضايا” و”تعطيل تحقيقات” في ملفات إرهاب وارتكاب “فساد مالي وأخلاقي.
ورغم صدور قرار من المحكمة الإدارية بتاريخ 10 أوت 2022، يقضي بإيقاف تنفيذ أغلب قرارات الإعفاء (49 من أصل 57) إلا أن وزارة العدل قد رفضت التنفيذ ، اعتبارا لكون “القضاة المشمولين بقرار الإعفاء ما زالوا محل ملاحقات قضائية “.
//المحاكمة العادلة ترتكز على الحق في التقاضي وفي تنفيذ الأحكام
حسب القاضي الإداري عماد الغابري فإنه “من المفروض أن تنفيذ الأحكام هي مسألة محسومة وبديهية وآلية والطرف المحكوم مرغم على التنفيذ”، وفق ما أكده في تصريح ل(وات).
وفي دراسة له حول ” تنفيذ أحكام وقرارات القضاء الإداري في تونس”، نشرت بالمفكرة القانونية، لفت القاضي عماد الغابري إلى أن “ارتباط القضاء بحكم وظيفته الدستورية بالفصل في النزاعات المرتبطة بالحقوق تجعل من مسألة تنفيذ الأحكام من أهمّ مرتكزات دولة الحق والقانون والتي بها يتأكد الأمان القانوني للمتقاضين واحترام حجية أحكام السلطة القضائية”، معتبرا أن “المحاكمة العادلة ترتكز على ثنائية حقوقية متلازمة وهي الحق في التقاضي من جهة والحق في تنفيذ الأحكام القضائية من جهة أخرى”.
واستعرض الغابري أهم الفصول القانونية التي تؤكد إلزامية تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية وقراراتها ومن بينها الفصل 86 من قانون المحكمة الذي ينص صراحة على تنفيذيّة الأحكام الاستعجالية بمجرّد صدورها عن القاضي الابتدائي ما لم يقدم في خصوصها مطلب توقيف تنفيذ لدى رئيس الدائرة الاستئنافية المتعهدة.
وبالنسبة لقضاء توقيف التنفيذ، فإن القرارات الصادرة فيه هي “قرارات باتة لا تقبل أي وجه من أوجه الطعن”، كما ينص الفصل 41 من قانون المحكمة الإدارية على أنه “على الجهة الإدارية المصدرة للمقرر المطعون فيه أن تعطل العمل به فور اتصالها بالقرار القاضي بتأجيل التنفيذ وتوقيفه”.
ويوضح الغابري في هذا الصدد أن “عبارة القانون واضحة في تعليق تنفيذ القرار الإداري وبالتالي جعل القرارات المعنية غير منتجة لأي أثر قانوني على المراكز القانونية المستهدفة بها وبالتالي ترجع تلك الوضعيات إلى حالتها العادية قبل صدور القرارات المقضي في شأنها”
//القضاء الإداري …القضاء الذي لا تنفذ أحكامه
يقول الغابري في دراسته حول تنفيذ أحكام وقرارات القضاء الإداري في تونس “إنه “خلافا لما هو عليه الأمر بالنسبة لأحكام القضاء المدني، فإن النظام القانوني لتنفيذ أحكام القضاء الإداري في تونس بقي حتى اليوم غير واضح”.
وببين في دراسته أن “ما يلاحظ هو غياب إطار قانوني وترتيبي صريح ينظم شروط وإجراءات وآليات تنفيذ أحكام القضاء الإداري.، معتبرا أن ذلك يمثل أحد أسباب تفاقم ظاهرة عدم تنفيذ أحكام القضاء الإداري، “حتى أصبح ينعت بالقضاء الذي لا تنفذ أحكامه”، وخاصة في غياب التنصيص على جزاء عن عدم التنفيذ”
وأوضح القاضي الإداري في تصريح ل(وات) أن أشكال التفصي من تنفيذ الأحكام وخاصة من طرف الإدارة لها عديد الأسباب أهمها غياب إطار قانوني يلزم على التنفيذ ويعطي جزاء للإدارة لعدم التنفيذ.
وفسر أنه في ظل غياب إطار تشريعي وترتيبي لتنفيذ الأحكام، تسعى الإدارة كمحكوم ضدها كوجهة معنية بالتنفيذ، إلى إثارة الدفوعات والحيل لجعل عدم تنفيذها للحكم مبررا “بموجبات القانون”، مضيفا أنه وفي بعض الحالات، “تتذرع الإدارة في عدم تنفيذها بعدم اقتناعها بالأسانيد القانونية للحكم الصادر ضدها والتي تصر على أن موقفها القانوني الذي كانت تدافع عنه أمام القاضي في إطار المحاكمة الإدارية هو السليم”.
ويعتبر الغابري أن “هذه الوضعية تعكس عدم ثقة تجاه المؤسسات القضائية ومساسا بمبدأ الفصل بين السلطات وتدخلا في شأن القضاء على اعتبار أنها، بإثارة مثل هذا الدفع، تنزل نفسها منزلة الخصم والحكم”، مشددا على أن “وظيفة القضاء تبقى وظيفة دولة من المفروض أن لا يكون من هو تحت حكمها في حرج مما قضت به”.
//لا بد من إطار قانوني صارم وعقوبات على عدم التنفيذ
وقال الغابري “إن العيب ليس في القضاء الذي يصدر الحكم بل العيب في السلطة التي لا تنفذ الأحكام”، مشددا على أن المسؤول الإداري ليس له أي سلطة تقديرية للحكم على قرار المحكمة الإدارية أو تأويله وأن المفروض عليه تنفيذ الحكم.
وأشار إلى أن بعض الموظفين الكبار ينتهزون غياب إطار قانوني حاسم يفرض عقوبات تأديبية أو جزائية على عدم التنفيذ وأن الحل في إيجاد هذا القانون، مذكرا في هذا الصدد بأن مشروع مجلة القضاء الإداري يتضمن التنصيص على ضرورة إيجاد إطار قانوني لتجاوز هذا الفراغ وتوفير آليات قانونية للحث والجبر على التنفيذ.
وفي حالة عدم تنفيذ قرار صادر عن المحكمة الإدارية، بين القاضي الإداري أن هناك فصل قانوني يعتبر عدم التنفيذ “خطأ فاحشا” ويمكن للمواطن أن يرفع قضية جديدة في التعويض لدى المحكمة الإدارية وهي “قضية في عدم تنفيذ أحكام” وفيها تعويض مادي أكثر من تنفيذ الحكم الإداري في حد ذاته.
ويقدم الغابري في دراسته جملة من المقترحات التي يمكن أن تساهم في فرض التنفيذ وفي مقدمتها أن تتضمن الأحكام المتعلقة بالنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية والأنظمة الأساسية الخاصة لبقية الأعوان العموميين تنصيصا صريحا على واجب تنفيذ الأحكام عموما، وأن الامتناع أو عرقلة تنفيذها يعدّ خطا تأديبيا جسيما موجبا للعزل.
ويقترح أيضا أن يقع تعديل أحكام المجلة الجزائية المتعلقة بعدم تنفيذ أحكام القضاء وإدراج أحكام خاصة تنسحب على الأعوان العموميين المعنيين بالتنفيذ والترفيع في العقوبات الخاصة بهذه الجريمة ، إضافة إلى إحداث خطة قضائية صلب هيكل القضاء الإداري وهي “قاضي تنفيذ الأحكام” يعهد إليه تلقي تشكيات المتقاضين المتعلقة بعدم التنفيذ والنظر في آليات تنفيذ الأحكام والبت في الصعوبات المتعلقة بها.
كما يوصي بإحداث مرصد لدى المجلس الأعلى للقضاء يعنى بتجميع الإحصائيات حول عدم تنفيذ الأحكام ويوفر قاعدة بيانات يمكن الرجوع إليها”.