طوارئ في كل بيت، إجراءات جديدة وانقلاب في التصرفات والمعاملات داخل الأسر فلا تلفاز ولا سهرات ولا زيارات… ذلك هو النسق الذي تعيش عليه تقريبا غالبية الأسر التونسية حين يكون أبناؤها من ضمن تلاميذ سنوات الامتحانات الوطنية ولا سيما امتحان البكالوريا.
ولم يبق إلا أيام معدودات على اختبارات امتحان البكالوريا التي ستجري هذه السنة أيام 5 و6 و7 و10 و11 و12 جوان المقبل.
ومع العد التنازلي نحو اقتراب موعد انطلاق الامتحانات تظهر داخل مختلف منازل التونسيين طقوس وممارسات تكاد تعاد كل سنة. فبين سوق “البلاط” لبيع الأعشاب الطبية والصيدليات ومحلات بيع المواد شبه الطبية ومجموعات تلاميذ البكالوريا على مواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا)، تنشط حركة الأولياء في صراع مع الوقت للتغلب على الضغوط النفسية والمساعدة في إعداد الأبناء لهذه المحطة الهامة ولتحقيق تميّز أبنائهم والظفر بأعلى المعدلات في هذه الامتحانات التي تبقى ذات “قدسية كبرى” في المخيال التونسي وفي “تقاليده” على مر الزمان.
“كلنا نعلم مكانة شهادة البكالوريا لدى مختلف الأسر التونسية”، هكذا بدأت سهام أم لمترشحة لشهادة البكالوريا اختصاص علوم تجريبية حديثها ل(وات)، مسترسلة بالقول “هذا الامتحان الوطني يظل الاختبار الأكبر وربما الأوحد الذي يدير الأعناق حوله ويثير جدلا كبيرا لأنه يعتبر بوابة العبور إلى الفضاء الرحب للجامعة، فالأسر التونسية ما زالت تصر على أن التعليم بالنسبة إليها رافعة اجتماعية ومدخل رئيسي لعالم العمل وتحسين أوضاعها”.
وتضيف أنه رغم تطور المستوى العلمي للأسر التونسية إلا أن امتحانات البكالوريا ما زالت تحافظ على هيبتها بين الأسر التي تعيش فترة ضغط نفسي وشد عصبي بين التوق والشوق لا فقط الى النجاح وانما الى تحقيق التميّز إذ تدفع الأسر الغالي والنفيس، في إشارة الى الدروس الخصوصية التي تنشط كثيرا خلال فترة المراجعة بأثمان خيالية، في سبيل مساعدة أبنائها على الظفر بهذا المنجز العظيم وكذلك بالنصائح والمساندة النفسية.
ويرى عدد من الأولياء الذين التقتهم (وات) أن البكالوريا هي بمثابة “الظاهرة” السنوية التي تؤثث بيوتهم وتتكثف الاستعدادات لإنجاح هذا الحدث منذ بداية السنة الدراسية من خلال ضبط روزنامة التدخلات سواء المادية التي يستعدون لها حتى قبل سنة وكذلك عبر التراتيب والتنظيمات وتوجيه الأبناء حتى يبلغ هذا الحدث حسب توصيفهم ماراطونا تنافسيا بين الأسر لتحقيق النجاح قبل التلاميذ لأهميته البالغة في المصعد الاجتماعي.
وفي هذا الصدد تحدث السيد كمال عن أول موعد له مع مواجهة هذا الامتحان لأن ابنه البكر يدرس بالسنة الرابعة رياضيات فقال “نظرا إلى أهمية هذه الفترة (فترة المراجعة) والفترة القادمة ومدى تأثيرها على مردود التلميذ في الامتحانات، نسعى إلى توفير كافة الظروف الملائمة لابني حتى يتسنى له الإعداد والمراجعة بما يضمن له النجاح والتألق”.
ولفت إلى أن سوق الدروس الخصوصية تنشط بكثافة في مثل هذه الأوقات لأن التلميذ يعمل على الترفيع في نسق المراجعة حتى يتمكن من فهم كافة المحاور وهو ما يدفع بالولي الى إنفاق مبالغ كبيرة لتمكين أبنائه من الإعداد الجيد خاصة لتلك الدروس المتعلقة بالمواد الأساسية ذات الضوارب الكبيرة والمؤثرة على المعدل حسب تقديره.
أما السيدة سناء التي كانت لها تجربتان سابقتان مع امتحانات البكالوريا، فقد دعت عائلات التلاميذ المترشحين لاجتياز امتحانات الباكالوريا الى توفير الهدوء التام للأبناء بما يساعدهم على التركيز والمراجعة في ظروف سانحة مشيرة الى أنها كانت تقطع خلال فترة المراجعة والامتحانات قبول الزائرين حتى لا يتم تشويش الأجواء على أبنائها كما أنها كانت تحرص على أن يخرجا للتنزه ورؤية المناظر الطبيعية الجميلة وكسر رتابة الاجواء المغلفة بالمراجعة والتدريب على الامتحانات.
ولا يتوقف نزيف الطقوس الخاصة بامتحان الباكالوريا عند الإعداد للمراجعة والإنفاق على الدروس الخصوصية فالعائلات التونسية تسلك كل السبل التي تعتقد أنها قد تكون مسلكا لنجاح أبنائها.
وفي هذا الصدد يقول محمد، أحد تجار الأعشاب والزيوت الطبية بسوق “البلاط” بالمدينة العتيقة لـ(وات)، أن تجارته تنشط كثيرا خلال هذه الفترة من السنة الدراسية مقارنة بسائر أيام السنة إذ تتوافد على المحل، الذي ورثه عن أبيه وجده من قبله، أعداد كبيرة من أولياء التلاميذ بحثا عن أنواع معينة من الأعشاب والزيوت على غرار الزعتر والريحان وأكليل الجبل والمرمية والقرفة والعسل و زيت جوز الهند وزيت السمك أو يطلبون المساعدة لمدهم ببعض الخلطات الجاهزة وكيفية استعمالها لاستغلالها مباشرة بهدف مساعدة الأبناء على التقليل من التوتر العصبي وتحسين مستوى التركيز لديهم خلال المراجعة والحفاظ على كل ما تلقوه من علوم ومعارف سواء بالمعهد او خلال دروس الدعم التي تتضاعف ساعاتها خلال شهر ماي، لاستغلالها يوم الامتحان على أحسن وجه دون وقوع أبنائهم تحت رهاب الامتحانات.
ولفت محدث (وات) الى أن عادات وتقاليد الأسر التونسية لم تتغير تقريبا رغم التطورات الحاصلة في الاسر حيث حافظت على نفس التمشي في هذه المناسبات التي تترقبها الأسر وتستعد لها كل على طريقته، مؤكدا انه في هذه المهنة منذ 6 عقود وتقريبا يعيش سنويا التساؤلات ذاتها والتشكيات نفسها من الأولياء.
وتقول آمال مساعدة صيدلانية بإحدى صيدليات ولاية منوبة إنها تعودت خلال هذه الفترة استفسارات بعض أولياء تلاميذ البكالوريا حول آخر أنواع الفيتامينات والاوميجا 3 والمكمّلات الغذائية المنصوح بها لمساعد الأبناء على تحقيق التوازن الغذائي والنفسي والتخفيض من حالات التوتر والضغوط التي تنتابهم من حين لآخر ولا سيما خلال فترة المراجعة، مشددة على أنها تحرص في كل مرة على التأكيد على ضرورة توفير الراحة النفسية والتغذية المتوازنة والنوم بالقسط المناسب.
أما خولة المترشحة لبكالوريا علوم تجريبية فتقول ضاحكة “جدتي كانت لا تقوى على صعود درجات السلم لبلوغ منزلنا الا أنها هذه السنة دأبت على الصعود تقريبا يوميا لا سيما منذ بدأت اختبارات “الباك سبور” وهي محمّلة كل يوم بنوع من الفواكه الجافة والعسل والتمر، وهي تحرص كل مرة تصعد فيها إلينا على أن تقدم لي فنجان ماء الزهر المخلوط بالعسل وقراءة ما تيسر من الآيات القرآنية وبعض الأدعية قبل أن أغادر المنزل أو قبل البدء في المراجعة حتى تحصنني حسب تقديرها وتساعدني في الحفظ دون ملل وحتى يكون الحظ إلى جانبي”.
وتعتبر صفاء صاحبة شهادة جامعية و أم لبنتين توأم مترشح للبكالوريا رياضيات وعلوم تجريبية، أنّ العائلات التونسية ما زالت تتمسك بطقوس وعادات ترافق الإمتحانات رغم اندثار بعضها، مشيرة إلى أنها شخصيا تحرص على تلاوة ماتيسر من القرآن كل ليلة وعلى أن تقدم لابنتيها أغذية متوازنة ونصيبا من الراحة حتى تكونا هادئتين بعيدتين عن الرهبة وكي لا يتسرب إليهما الشك في قدراتهمان ومكتسباتهما.
من جهتها أكدت الدكتورة في علم النفس ربيعة العليبي توكابري، ضرورة تجنب الأولياء كل ما من شأنه أن يوتر الأجواء العامة داخل المنزل ولا سيما المبالغة في إدارة فترة المراجعة والامتحانات والعمل على احتواء أبنائهم وتقديم الدعم اللازم لهم لمساعدتهم خلال هذه الفترة على حسن تسيير أمورهم لأن سلوك الأسرة يؤثر على المترشح/ة وعلى تحصيله واستعداده.
وشددت على أن المراجعة لساعات متأخرة في الليل لا يمكن للدماغ استيعابها وكذلك الحال بالنسبة إلى ساعات الدعم الطويلة، داعية الى ضرورة المراوحة في المراجعة بين المواد العلمية والادبية وأخذ متسع من الوقت للراحة والترفيه.
ولفتت الى ان ما تقوم به بعض الأمهات من تهويل للأمور وشد الأعصاب وتشكيك قد تنقل الخوف وعدم الثقة والإحساس بالذنب لدى التلميذ، موصية إياهن بضرورة ضبط متابعة مجموعات البكالوريا على السوشيال ميديا ومساندة الأبناء قبل وأثناء وبعد الامتحانات، من خلال منحهم الاهتمام والرعاية النفسية كى تمر الامتحانات بسلام و دون ضغط عصبي .
وأوضحت العليبي أن كل ما يكتسبه التلميذ من خوف وقلق وفقدان الثقة بنفسه تكون الأسرة مصدره بسبب إحساس مسبق بعدم قدرة التلميذ على اجتياز الامتحانات بدرجات عالية، مشددة على ضرورة تجنب الأسر الضغط على ابنائهم حتى لا يصابوا برهاب الامتحان الذي من شأنه ان يهدم مسار التلميذ وفرحته بالبكالوريا.
أما الباحث في العلوم الاجتماعية والتربوية مصطفى الشيخ الزوالي فيرى أن الوضع العام اليوم تطور على ما كان عليه في السابق وأصبح أكثر تعقيدا فما كان يقدم من المربين من نصائح وإرشادات سواء للأسر أو للتلاميذ، قد لا تتماشى وواقع اليوم.
وذكّر الباحث الشيخ الزوالي بما شهدته الأسر التونسية من تغيرات متتالية مثل ارتفاع مستوى تعليم الوالدين وتطور مكانة الطفل داخل الأسرة، وما يعنيه ذلك من تطور اهتمامات الأسرة ومشاغلها بالنسبة لأبنائها من المترشحين حيث أنها فوضت ذلك إلى ما يُسمّى “بمدرب التنمية البشرية” أو “كوتش”، والأخصائي النفساني وغيرهم، للاهتمام بكل ما من شأنه أن يساعد المترشحين.
وشدّد الخبير على ضرورة الخروج من الوصفات الجاهزة في إشارة الى النصائح والإرشادات “المباشرة” التي تقدم منذ عقود للتلاميذ المقبلين على الامتحانات الوطنية دون مراعاة للتطور الحاصل في ملامح التلاميذ وبيئته إذ أن تلاميذ اليوم أصبح لديهم من إمكانيات التطوير الذاتي ما يمكنهم من التحصيل المعرفي والاستعداد النفسي وتقسيم وقت المراجعة وذلك عن طريق التطبيقات الاعلامية ومواقع المراجعة.
وأكد الشيخ الزوالي على أهمية توفير الأسر للظروف المادية والمعنوية الملائمة لأبنائها، عبر تجنب مختلف أنواع المقارنات المسقطة والمُحبطة ومساعدتهم في تنظيم جهودهم، فالتلميذ في حاجة أكيدة لتنظيم أوقات النوم وكذلك أنواع الأغذية التي يجب عليه تناولها أو الابتعاد عنها لتحقيق توازنه الغذائي الذي يكفل توازنه الصحي والنفسي حسب تقديره.
وفي هذا الصدد شددت أخصائية التغذية مريم كشك زعايبي على ضرورة تجنب التلاميذ تناول المشروبات المنشطة أثناء المراجعة ليلا وأكدت أنّه من الضروري تنظيم الوقت لضمان حسن المراجعة وإيجاد الوقت لتناول الأغذية السليمة والمتوازنة دون انزعاج، لما للتغذية من دور أساسي ومهم لصحة الجهاز العصبي المسؤول عن الإدراك والتركيز حسب تقديرها.
ونصحت في هذا الخصوص بضرورة تناول الأوميغا 3 و الدهنيات الموجودة في الجوز والحوت الأزرق وبذور الكتان، بالإضافة إلى الأغذية التي تعزز وصول الأكسجين للخلايا كالخضر الورقية.
وحذرت الأخصائية من الأغذية التي تحتوي على مؤشر عال من السكر، كالعصير المعلب وقطع السكر التي من المتعارف تناولها قبل الذهاب إلى الامتحانات في عادات بعض الأسر ونصحت باستبدال ذلك إمّا بالعسل أو الشكلاطة والفاكهة لتعديل مؤشر السكري وضمان الطاقة اللازمة.
ودعت الى ضرورة تنظيم أوقات الوجبات اليومية مع مراعاة توازنها لما له من فوائد على صحة المترشح، مبينة أهمية أن تحتوي وجبة الصباح على الخبز الكامل أو “الشوفان” أو”البسيسة”، مع كأس حليب أو أحد مشتقاته وبخصوص وجبة منتصف النهار، شددت على ضرورة ألا تكون دسمة وتتكون من السلطة والبروتينات والمعجنات (كسكي مكرونة…) أو الأرز وفقا لكميات مدروسة، مع ضرورة تجنب الوجبات السريعة، والأغذية المقلية، كذلك الحال بالنسبة لوجبة العشاء فأكدت على ضرورة أن لا تكون خفيفة.
وفي ختام حديثها أشارت أخصائية التغذية إلى ضرورة حصول المترشحين على ساعات كافية من النوم وتجنب التدخين والقهوة خاصة على معدة خاوية لما يسببه ذلك من ازعاج للجهاز الهضمي.