عام واحد مضى بين التاريخين ولكن شتان بينهما بالنسبة إلى التونسيين. في الأول ذهبوا فخورين مزهوين لأول مرة في تاريخهم الحديث إلى انتخابات حرة وتعددية بعد 55 عاما لم يعرفوا فيها معنى الانتخابات الحقيقية. في الثاني، لم يحرموا فقط بالاحتفال بصدور دستور جديد لبلادهم كان يفترض أن ينتهي من صياغته …
تونس بين أكتوبرين
عام واحد مضى بين التاريخين ولكن شتان بينهما بالنسبة إلى التونسيين. في الأول ذهبوا فخورين مزهوين لأول مرة في تاريخهم الحديث إلى انتخابات حرة وتعددية بعد 55 عاما لم يعرفوا فيها معنى الانتخابات الحقيقية. في الثاني، لم يحرموا فقط بالاحتفال بصدور دستور جديد لبلادهم كان يفترض أن ينتهي من صياغته المجلس التأسيسي الذي اختاروه، وإنما تغيرت مشاعر الكثير منهم بفعل ما حدث في الأثناء وما يمكن أن يحدث.
مشاعر الناس وعواطفهم ليست كل شيء عند تقويم الأوضاع السياسية في تونس، أو غيرها، ولكن ليس من الحكمة تجاهل أهمية المزاج العام للشعب ومعنوياته ولا الاستخفاف بتأثيرها على مجريات الأمور. عندما تتراجع مساحة الفرح والفخر لدى التونسيين بانتصار ثورتهم على حكم الاستبداد والفساد أمام تقدم القلق والحيرة والتشوش وحتى الإحباط والغضب فلا بد من التوقف والتساؤل عن الكيفية التي بدد بها القائمون على الأمور في تونس الآن كل هذا الرصيد في عام واحد.
كل المراحل الانتقالية التي عرفتها شعوب العالم بعد الإطاحة بالدكتاتوريات لم تكن سهلة ولا سلسة ومن الصعب أن تكون تونس استثناء في هذا المجال. هذا صحيح، والصحيح كذلك أن حكومة الإئتلاف الثلاثية في تونس ورثت وضعا اقتصاديا صعبا ومطالب واحتجاجات اجتماعية لا تهدأ وحجم توقعات جارفة بعضها يتجاوز امكانات البلاد المحدودة. كما أن بعض المعارضة لم تركز على شيء تركيزها على التنغيص على الحكومة في كل شيء، بموجب أو بدونه . ما تلام عليه الحكومة التي تقودها حركة النهضة الإسلامية مع حزبي المؤتمر والتكتل ليس ما عجزت عن فعله، فالتركة ثقيلة وزمن المعجزات ولى وانتهى، لكنها تلام أساسا على ما فعلته. حجم التردد و التخبط و قلة التوفيق الذي ميز عملها كان واضحا للجميع إلا لأعضائها. كان لافتا أنه لم يكن هناك لدى قطاعات واسعة من النخبة وحتى من الناس العاديين قناعة بكفاءة القيادات الحاكمة أما الأخطر فكان التراجع الدرامي المستمر في عنصر الثقة في نوايا هذه القيادات الحقيقية لإرساء تونس جديدة تعددية عصرية منفتحة بعيدة عن التطرف الديني.
طوال هذا العام، لم تكن الحكومة التونسية في حقيقة الأمر في خصومة مع بقايا النظام السابق و لا مع مجموعات أصولية متطرفة بثت الرعب لدى قطاعات عديدة من المجتمع ولا مع مراكز الفساد المرتبطة بالمافيا الحاكمة السابقة، ولكنها دخلت في معارك عبثية لا معنى لها مع قوى يفترض أنها حليفة لها في عملية الانتقال الديمقراطي. رئيس الحكومة وأساسا بعض مستشاريه اشتبكوا مع الصحافة ونقابتهم حتى وصلت الأمور إلى إضراب عام في قطاع الصحافة هو الأول في تاريخ تونس من أجل مطالب عادلة اضطرت الحكومة أن تستجيب إلى بعضها مكرهة بعد هذا الإضراب مع أنه كان بإمكانها أن تستبق الأحداث وتكسب النقاط. وزير العدل دخل في مواجهة مفتوحة مع القضاة فبات هذا المحامي الذي كان يشتكي من قبل من عدم استقلالية القضاء في مواجهة مع من كانوا معه في نفس الخندق النضالي ضد منظومة الفساد القضائي. كذلك وزير الداخلية الذي خبر التعذيب والزنازين لسنين طويلة تحول إلى مسؤول عن بعض الانتهاكات التي كان هو وحزبه من أكثر ضحاياها سنوات بن علي… ومن هذه الأمثلة الكثير.
كل ما سبق ألــّب على الحكومة شبكة المنظمات الدولية المعنية بحرية التعبير وحقوق الإنسان ممن كانت في السابق نصيرا للمعارضة ضد نظام بن علي. من سوء التقدير وقلة الحصافة على حكومة انتقالية بعد ثورة رائعة أن تدخل في إشكالات مع مثل هذه الأوساط الدولية النافذة. ليس الحكومة وحدها، فحتى هؤلاء الذين اختارهم الشعب وفوّضهم صياغة الدستور الجديد للبلاد دخلوا في متاهات لا أول لها ولا آخر مرة في مضامين هذا الدستور البديهية كالمساواة بين الرجل والمرأة واستقلالية السلطة القضائية، ومرة في مسائل تتعلق برواتبهم ومنحهم بل وحتى مخصصات تقاعدهم!!
شيء واحد فقط يبعث على الاطمئنان بالنسبة للمستقبل: التونسيون الواعون بكل شيء لم يعد يقبلون عودة أي نوع من الاستبداد فقد انتهى الخوف إلى الأبد ومن جاء بهؤلاء عبر صناديق الاقتراع قادر على إزاحتهم و الإتيان بغيرهم عبر نفس الصناديق. هذه هي ثمرة الثورة الحقيقية والأروع.