تصاعدت موجة العنف التي شهدتها عدة مدن تونسية خلال الأسبوعين الماضيين لتنتهي صباح الأربعاء 6فبراير/شباط باغتيال شكري بلعيد الأمين العام لحركة “الوطنيون الديمقراطيون” اليسارية …
تونس: أزمة الترويكا واصطفاف المعارضة |
تصاعدت موجة العنف التي شهدتها عدة مدن تونسية خلال الأسبوعين الماضيين لتنتهي صباح الأربعاء 6فبراير/شباط باغتيال شكري بلعيد الأمين العام لحركة "الوطنيون الديمقراطيون" اليسارية وأحد أبرز قيادات "الجبهة الشعبية" التي تضم في تركيبتها قوى يسارية وأخرى قومية. في مساء اليوم ذاته أعلن رئيس الوزراء حمادي الجبالي عن تشكيل "حكومة كفاءات وطنية" بديلاً من حكومة الترويكا التي أفرزتها تفاهمات ما بعد انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011 لقيادة المرحلة الانتقالية. حدث ذلك في سياق حركية سياسية غير مسبوقة تشهدها الساحة السياسية التونسية أفضت إلى تطورين على غاية من الأهمية يبدو وكأنهما يسيران في اتجاه متعاكس: تكتل في المعارضة وتفكّك في الحكم. فعلى صعيد المعارضة، ائتلفت ثلاثة من الأحزاب الرئيسية لتشكّل قطبًا أُطلق عليه اسم "الاتحاد من أجل تونس"، ضمّ إلى جانب "حركة نداء تونس" التي يتزعمها رئيس الوزراء السابق المخضرم الباجي قايد السبسي، حزبي "الجمهوري" بقيادة مي الجريبي و"المسار الديمقراطي الاجتماعي" بزعامة أحمد إبراهيم. وعلى صعيد الحكم، تفجرت الخلافات بين أضلاع مثلث الترويكا الذي يقود البلاد منذ انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 ويتألّف من حركة النهضة وحزبي "المؤتمر من أجل الجمهورية" و"التكتل من أجل العمل والحريات".
لم يعد تحالف الأحزاب واندماجها في تونس أمرًا مفاجئًا ولا مستبعدًا في ظل الديناميكية التي أطلقتها الثورة والتي من بين أبرز مظاهرها توالد الأحزاب وتشكّل الجبهات في حركة دائبة لإعادة رسم المشهد السياسي عامة والبحث عن توازن مفقود. فالحزب الجمهوري ذاته تجمُّع لعدد من الأحزاب من بينها "الديمقراطي التقدمي" و"آفاق تونس" و"الإرادة" و"الكرامة". كما يضم المسار حزبي "حركة التجديد" (الحزب الشيوعي سابقًا) و"العمل التونسي"، إضافة إلى قيادات من "القطب الحداثي" ذي التوجه اليساري. إلا أن لقاء الثلاثي الذي انضوى مؤخرًا تحت لافتة "الاتحاد من أجل تونس" والذي يوصف في بعض الأوساط بـ"ترويكا المعارضة"، في إشارة إلى إمكانية تحوله إلى منافس جدي للترويكا الحاكمة، يحمل أكثر من دلالة. فهو تحالف بين أطراف لا يجمع بينها خط فكري ولا رؤية موحدة ولا نظرة مشتركة لما قبل الثورة وما بعدها؛ فلطالما اعتُبرت "حركة نداء تونس" من قبل خصومها غطاء لعودة "التجمع" الحاكم سابقًا، والذي وقع حلّه بقرار قضائي. ليس ذلك فقط بسبب تقلد زعيمها مناصب سياسية بارزة في نظام الحكم الذي أطاحت به الثورة، تراوحت بين وزارات الداخلية والدفاع والخارجية في عهد بورقيبة، وبين رئاسة البرلمان في عهد بن علي، وإنما أيضًا بسبب تركيبتها التي تضم وجوهًا تجمعية معروفة وأخرى يسارية وليبرالية عمل أغلبها في مواقع مختلفة في صُلب المنظومة التجمعية. أما حزبا الجمهوري والمسار فينتميان تاريخيًا، على الأقل في مكوناتهما الرئيسية، إلى صف المعارضة التي جمعت بينهما وبين أحزاب الترويكا الحاكمة لسنوات طويلة. الملاحظة الأساسية على دينامية التحلل وإعادة التشكل في صفوف المعارضة هو أنه لم يعد هناك خطوط حمراء تمنع تقارب أحزابها أو تحالفها. لا خطوط حمراء على صعيد الأيديولوجيا ولا على صعيد البرنامج السياسي، والذي جعلها تتجاوز هذه الخطوط الحمراء هو أن الجامع الوحيد بينها يتمثل في معارضتها الجذرية للحكومة ولحركة النهضة ذات التوجه الإسلامي تحديدًا.
لم تعد أزمة الترويكا الحاكمة في تونس مقتصرة على الخلاف بين أضلاعها الثلاثة والذي بات يهدد مستقبلها بشكل جدي، بل هو ممتد داخل تلك الأحزاب ذاتها؛ فالتحالف الذي ظل يوصف إلى وقت قريب بـ"الإستراتيجي"، بدأ التشكيك فيه يشق خطاب جميع الأطراف. رأينا ذلك في مداولات مجلس شورى حركة النهضة الذي انعقد آخر الأسبوع (الجمعة 1فبراير/شباط) في دورة استثنائية بدا فيها أن كلمة السر التي شكّلت مدار النقاش دون ورودها في البيان الختامي هي أن الحفاظ على "الترويكا لم يعد خطًا أحمر". فمطالبة شريكي الحكم حزب الأغلبية بالتخلي عن وزارتي العدل والخارجية السياديتين رأت فيه النهضة "ابتزازًا" يتعارض مع ما قامت عليه صيغة الحكم منذ الانتخابات، ولا يتناسب مع الحجم المتبقي لهذين الحزبين في المجلس التأسيسي بعد الانشقاقات التي عصفت بهما وأفقدت كلاً منهما نسبة مهمة من كتلته النيابية. في مقابل ذلك، كثّفت قيادة النهضة في الأسابيع الأخيرة من مشاوراتها مع الأحزاب والكتل الأخرى لتأمين بدائل متوقعة في حال تمسك المؤتمر والتكتل بشروطهما وانفرط عقد الترويكا. وقد انعكس الخلاف داخل النهضة أيضًا في استقالة المستشار السياسي لرئيس الحكومة (لطفي زيتون) الذي وصف مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة بـ"المحاصصة الحزبية"، قبل أن يقرر رئيس الوزراء نفسه تشكيل حكومة جديدة على أسس غير حزبية، في تعارض واضح مع توجه حزبه وقرار مؤسساته الشورية والتنفيذية. من ناحية أخرى، بدأت قيادات حزب المؤتمر من أجل الجمهورية تبث رسائل متناقضة تؤكد أن الخلاف داخله لا يقل عنه داخل شريكيه في الحكم؛ ففي حين خرج المجلس الوطني الاستثنائي من اجتماعه الأخير (السبت 2 فبراير/شباط) بموقف متشدد هدد فيه بالخروج من الحكم "والبحث عن تحالفات جديدة" وأعطى رئاسة الحكومة مهلة أسبوع للاستجابة إلى مطالبه، استقال المستشار السياسي للرئيس المرزوقي (سمير بن عمر) احتجاجًا على إصرار حزبه على موقفه، متهمًا أطرافًا فيه بعرقلة مفاوضات التحوير الوزاري والسعي لإفشالها. في موقف مشابه عبّر عنه وزير أملاك الدولة (سليم بن حميدان)، دعا زملاءه في الحزب إلى مساندة وزيري العدل والخارجية معتبرًا أن في تنحيتهما "استجابة لحملة الثورة المضادة". في مثل هذه المناخات يرتفع منسوب التوتر السياسي والاجتماعي ويصبح العنف ملجأ لمن يرغب في دفع الأوضاع إلى تغيير قواعد اللعبة التي بدأت تترسخ منذ انتخابات المجلس التأسيسي.
على صعيد المعارضة ستستمر حركية التشكل وإعادة التشكل الحزبي وإن بوتيرة متصاعدة استعدادًا للانتخابات القادمة. ويُتوقع أن تشهد الأيام والأسابيع القادمة توسع ائتلاف "الاتحاد من أجل تونس" ليضم أحزابًا أخرى في مقدمتها حزبا "العمل الديمقراطي" و"اليسار الاشتراكي". وحتى الجبهة الشعبية، التي اُغتيل أحد قادتها المعروف بمعارضته للتقارب مع "نداء تونس"، لم تعد بعيدة عن هذا المسار. أما على صعيد الحكومة فيبدو أن الوضع سيسير في أحد احتمالات ثلاثة: 1. الاحتمال الأول: أن يتمسك حزبا المؤتمر والتكتل بشروطهما إزاء التحوير الوزاري وينفذا تهديدهما بالانسحاب من الحكومة فتكون نهاية تجربة الترويكا. وفي هذه الحال، سيقع حل الحكومة وإعادة تشكيلها على أسس جديدة وضمن توافقات غير تلك التي أفرزتها انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. فخروج وزراء المؤتمر من الحكومة قد يؤدي أيضًا إلى ترك الرئيس المرزوقي منصب الرئاسة الذي تولاه كجزء من توافقات الترويكا. كما أن خروج وزراء التكتل يعني تخلّي مصطفى بن جعفر عن منصب رئاسة المجلس التأسيسي لنفس السبب؛ ما يعني أن مجمل المنظومة القائمة سيعاد تشكيلها مجددًا، وربما تدخل البلاد في أزمة سياسية ودستورية يتعطل معها ما بقي من استحقاقات المرحلة الانتقالية. وقد يكون ما أعلنه رئيس الحكومة حمادي الجبالي مساء الأربعاء (6 فبراير/شباط) من تشكيل "حكومة كفاءات وطنية" غير حزبية هي الخيار الوحيد المتبقي، في نظره، لتجنب الوقوع في مثل هذه الأزمة. غير أن ثمة صعوبات سياسية ودستورية جدية تحول دون المضي في هذا الخيار في الوقت الراهن؛ فحركة النهضة وحزب المؤتمر لا يزالان يرفضان صيغة حكومة التكنوقراط ويريان أن المرحلة الانتقالية ينبغي أن تقودها حكومة سياسية ذات ثقل حزبي. كما أن صلاحيات رئيس الحكومة لا تخوله تشكيل حكومة جديدة دون تكليف من رئيس الدولة وهو ما لم يحدث قبل إعلان الجبالي مبادرته هذه. وحتى في صورة تجاوز المأزق الدستوري وتشكيل حكومة "كفاءات وطنية" غير حزبية، فإن نيلها ثقة المجلس التأسيسي سيكون صعبًا وربما استحال مع معارضة النهضة والمؤتمر وبعض الكتل النيابية الأخرى مثل كتلة "حركة وفاء" التي يتزعمها عبد الرؤوف العيادي المنشق سابقًا عن حزب المؤتمر. 2. الاحتمال الثاني: أن يقود اغتيال بلعيد إلى مزيد من الاحتقان فتتفجر موجة من العنف تتسع جغرافيًا وتتعمق اجتماعيًا لتفرز سياسيًا تكتلاً واسعًا لأحزاب المعارضة بكل أطيافها. وقد بدأت بوادر هذا التكتل في البروز حيث التقت ولأول مرة قيادات من "الجبهة الشعبية" وأخرى من "نداء تونس" تحت سقف واحد، واتفقوا على جملة من الإجراءات والمطالب السياسية، أهمها: الدعوة إلى الإضراب العام، وتعليق نواب المعارضة نشاطهم في المجلس التأسيسي، كما دعا الباجي قايد السبسي زعيم "الاتحاد من أجل تونس" إلى إسقاط الحكومة وحل المجلس التأسيسي. وإذا دخلت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل على هذا الخط، يصبح بمقدور التكتل الجديد أن يُفشِل مساعي أحزاب الحكم للتوصل إلى توافق جديد يعيد الحياة إلى صيغة الترويكا، ولكنه في الوقت نفسه سيكون عاجزًا عن تقديم بديل من داخل المعارضة نظرًا لافتقاده الثقل الكافي داخل المجلس التأسيسي. لن تُفضي معادلة العجز المتبادل: عجز الحكومة عن الاستمرار في أداء مهامها وعجز المعارضة عن تشكل بديل يحظى بالسند الكافي، إلا إلى تعميق الأزمة ودخول البلاد في نفق مظلم سيكون الخروج منه مكلفًا للجميع. 3. الاحتمال الثالث: أن تتجاوز الأحزاب الثلاثة خلافاتها الآنية فتتوافق على شكل التحوير الوزاري وحدوده واتجاهه دون المس بالقواعد الأساسية التي بُنيت عليها الترويكا ابتداء. وذلك يعني أن تجاوز الأزمة سيكون بأخف الأضرار، وربما تجني الحكومة منها مكاسب تتجاوز مجرد الاستمرار في السلطة. فتماسك ثلاثي النهضة-المؤتمر-التكتل سيعيد الثقة في هذه الصيغة الائتلافية التي ميزت التجربة الانتقالية التونسية عن مثيلاتها في الساحة العربية، وسيرسل إلى الشعب رسائل مطمئنة بعد حالة القلق والانتظار والخوف من المستقبل التي هيمنت على المشهد منذ بدأ الحديث عن إعادة تشكيل الحكومة قبل عدة أشهر. إن استمرار تجربة الحكم الائتلافي مع توسيع قاعدة الحكم، لاسيما إذا وقع تطعيم الترويكا بوزراء من خارجها سواء بصفاتهم الفردية أم كممثلين لكتل في المجلس التأسيسي، سيضمن وصول تلك الرسائل إلى أهلها ويمنح عملية الانتقال الديمقراطي نفَسًا جديدًا هي أحوج ما تكون إليه. فاستكمال مناقشة الدستور وسنّ قوانين الهيئات الدستورية الثلاث (الانتخابات، الإعلام، القضاء)، وإقرار تواريخ الانتخابات التشريعية والرئاسية لا يمكن أن يكون إلا في ظل توافق سياسي واسع. هذا الاحتمال يبدو مرجحًا أكثر من غيره لأن مصلحة أحزاب الحكم الثلاثة الآنية والمستقبلية تقتضي الاستمرار في الصيغة الحالية مع تنازلات متبادلة دون المساس بالقواعد العامة للعبة. وقد بدأت تتبلور داخل المجلس التأسيسي جبهة جديدة للدفاع عن شرعية المؤسسات المنتخبة تضم إلى جانب كتل الترويكا (النهضة والتكتل والمؤتمر)، حركة وفاء وكتلة الحرية والكرامة وكتلة المستقلين الأحرار.
|
مركز الجزيرة للدراسات |