أتابع أحداث الشعانبي وفي البال مشهد السيّد راشد الغنّوشي وهو يجتمع برموز من التيّار السلفي في الفيديو الشهير. كان زعيم حركة النهضة بصدد مناصحة هؤلاء وتبصرتهم بما غفلوا عنه من فقه الواقع ومراعاة الظروف والضرورات قبل زمان التمكين. مازالت المقاطع في الذهن، ومازالت تحذيرات “الشيخ” في البال وهو يذكّر جلساءه بأنّ “الجيش غير مضمون، وأنّ الأمن غير مضمون..”.
هذه بضاعتكم رُدَّت إليكم .. ! |
أتابع أحداث الشعانبي وفي البال مشهد السيّد راشد الغنّوشي وهو يجتمع برموز من التيّار السلفي في الفيديو الشهير. كان زعيم حركة النهضة بصدد مناصحة هؤلاء وتبصرتهم بما غفلوا عنه من فقه الواقع ومراعاة الظروف والضرورات قبل زمان التمكين. مازالت المقاطع في الذهن، ومازالت تحذيرات "الشيخ" في البال وهو يذكّر جلساءه بأنّ "الجيش غير مضمون، وأنّ الأمن غير مضمون..". مع ما يجري في جبال الشعانبي بالقصرين وحوادث أخرى هنا أو هناك، نكتشف أنّ الشباب "المتشدّد" كما تصفه الحكومة قد مرّ مباشرة إلى قلب الأمور لصالحه من خلال الدخول في اشتباك مباشر مع الأمن والجيش. ونحرُ الضابط بجبل الجلود ليس بمعزل عن بتر أقدام أعوان الأمن والجيش وذهاب أبصارهم في غابات الشعانبي.. نعلم من خلال اعترافات "الشيخ" أنّ هؤلاء "الفتية" يذكّرونه بشبابه الأوّل حين كان يعكف بحماسة على كتب "قطب" و"المودودي" و"بن نبي" وغيرهم. ولعلّه لذلك لا يعدم الرفق واللّين مع حماسة تهيّج أشجانه لأيّام الشباب الخوالي، فلا يبخل بالودّ على من تنطّع منهم أو تمرّد أو شقّ عصا الطاعة ولا يضنّ بالنصح والدعوة إلى الهداية وسواء السبيل. على الأرض، كان الشغل على قدم وساق منذ عاميْن لتهيئة أرضيّة التمكين. منابر ومساجد تضجّ بالدعوات إلى التكفير والتبديع والقتال، وتمور بأشواق الغرباء إلى دولة الإسلام كما تتخيّله رؤوس المدعوين. انتصاب دعويّ فوضويّ في كلّ مكان. كوكبة من "الدعاة" يتناوبون على زيارة البلاد زرافات ووحدانا، ليجدوا في استقبالهم "الشيخيْن". أعني عضدين من أعضاد السيّد الغنّوشي وهما الحبيب اللّوز والصادق شورو. تدافع اجتماعي ( !!) يبني قدُما ثقافة غريبة عن التونسيّين. تدافعٌ لا يخرج عن تدافع الإبل الهِيم (شديدة العطش) إلى حياظها يوم وِرْدها ! وإذا علمنا أنّ الإرهاب هو أيضا "ثقافة" تقوم على التدافع الغريزيّ والبهيميّ، لم نعجب لحماسة من حمل السلاح ولاذ بالجبال والكهوف لقتال الطواغيت وضرب رقاب أعوانهم. لم نعجب، فقواعد الاشتباك تبدأ في اللّغة والخطاب، وتشتبه بالفريضة والعقيدة من محاريب المساجد إلى باحاتها. ومن يزرع الشوك هنا يجن الجراح هناك. لا مناص من الإقرار بأنّ الحكومة تعاطت بكثير من التراخي والمصانعة أيضا في موضوع الإرهاب منذ بداياته. وكلّنا يذكر بمَ رميت التقارير الإخباريّة التي تحدّثت عن معسكرات تدريب للمتشدّدين، وعن عمليّات تجميع للسلاح، وكيف كان وزير الداخلية حينها يتّهم مثل هذه التقارير والأخبار بالتهويل والفزّاعات والمبالغات. عوض سياسة الحزم في معالجة الأمور منذ بداياتها، ركنت الحكومة تحت ضغط شقّ متشدّد في "حركة النهضة" إلى سياسة النعامة. هذه السياسة قادت إلى حوادث عنف، واغتيالات سياسيّة، وتقود اليوم إلى إرهاب أعمى ضحيّته أبناء تونس من الحرس والجيش الوطنيّيْن. وغدا يكون ضحاياه سائر أبناء الشعب. في غمرة أحداث الشعانبي، صدرت أربع رسائل يمكن أن توفّر مادّة أوليّة لفهم جانب ممّا يجري. رسالة أولى لـ"الشيخ" الحبيب اللّوز يدعو فيها المواطنين التونسيّين الرافضين لتطبيق الشريعة إلى الهجرة خارج البلاد. ورسالة ثانية لأخيه الصادق شورو يدعو فيها الحكومة إلى اللّين والحوار مع الجماعات المسلّحة في الجبال. ورسالة ثالثة من السيد الغنّوشي نفسه إلى أبنائه المتشدّدين يقول لهم فيها إنّ مقاتلة المسلم المؤمن كفر وجريمة، ويستدرك على كلام له سابق في الفيديو الشهير فيقول لهم، هذه المرّة، إنّ جيشنا مسلم وشرطتنا مسلمة، ولا يجوز الجهاد ضدّهم. الرسالة الرابعة صدرت عن عدد من شيوخ التيّارات السلفيّة يدعون فيها مؤسسات الدولة والإعلام والمثقفّين إلى "كفّ" أذاهم عن السلفيين الذين لا ذنب لهم إلاّ أنّهم دعوا إلى تحكيم شريعة اللّه، ويطالبون الحكومة بالاعتذار – فورا وبلا شرط – عمّا فعلته مع المتشدّدين، وبإطلاق سراح المسجونين منهم، وبالتعويض المادّي بدفع الديّة لأهالي من قُتل منهم في حوادث سابقة كحوادث السفارة الأمريكية أو حوادث دوار هيشر وغيرهما.. شيء أشبه بمسرح العبث، ولكنّه عبثٌ يقترن بالمأساة |
بقلم: مختار الخلفاوي. |