في غمرة النقاش العموميّ حول مشروع الدستور، وكلّما علا صوتٌ بنقد الدستور بعضه أو كلّه إلاّ جُوبِه بردّ نهضويّ جاهز: اقبلوا التوافقات التي وقع التوصّل إليها، وإلاّ سنضطرّ لعرض المشروع …
هل الشعب التونسيّ هو شعب “النهضة” المختار؟ |
في غمرة النقاش العموميّ حول مشروع الدستور، وكلّما علا صوتٌ بنقد الدستور بعضه أو كلّه إلاّ جُوبِه بردّ نهضويّ جاهز: اقبلوا التوافقات التي وقع التوصّل إليها، وإلاّ سنضطرّ لعرض المشروع برمّته على استفتاء الشعب. وكلّما احتدّ الخلاف تحت القبّة أو خارجها استلّ نائب من غمده سلاحا للردع الشامل يحتفظ به اسمه الإرادة الشعبيّة والشرعيّة الانتخابيّة حتّى شكّ كثير منّا في "شرعيّة" انتمائه إلى هذا الشعب التونسي الشقيق ! ويبقى السؤال عالقا: لماذا يهدّد النهضويّون مخالفيهم – إذا ما نطقوا بغير ما يطربون إليه – بالاحتكام إلى الشعب؟ وهل أنّ الشعب هو سيف "النهضة" المسلول؟ المقرّر العامّ للدستور الذي اُنْتُخِب هو أيضا – شرعيّا وشعبيّا – ثمّ تمّ تصعيده داخل المجلس الوطنيّ التأسيسي ليكون مقرّرا عامّا لدستور الجمهوريّة التونسيّة دون سائر الخبراء والمختصّين، يردّ على من يتّهمه بكتابة باب عاشر في المسوّدة للأحكام الانتقاليّة بأنّه قد اتّخذ له شريكا جليسا في كتابته، وأنّ لجنة الصياغة قد تعهّدت ما كتبا ببعض التعديل، فإنْ لجّ محدّثُه في الرفض، واجهه بالتهديد المأثور: إنْ تواصل الخلاف، ستضطرّ "النهضة" إلى الاتّجاه إلى الشعب للحسم، وبالمرّة قد يقترح بعض الإخوة الترفيعَ في سقف مطالبنا لنستفتي شعبنا الحبيب عن موضوع التنصيص على الشريعة مصدرا للتشريع في الدستور ! أما زعيم النهضة السيد راشد الغنوشي، فيقول إنّ حركته قد تنازلت بما فيه الكفاية وأنّ تنازلاتها القاسية في موضوع الشريعة والتكامل والتدافع وحرّية الضمير، وهلمّ جرّا- قد جرّت على حركته غضب القواعد ذات العواطف الجيّاشة للسلف الصالح، وأنّ النزول إلى مطالب الخصوم السياسيّين قد جاوز حدود الاحتمال، وأنّهم قد يضطرّون، في النهاية، إلى أبغض الحلال، وهو رفع الأمر كلّه إلى …الشعب الكريم !! وبما أنّ الإخوة في "النهضة" متشابهون، وعند نفس المؤدّب يدرسون، فقد قال النائب وليد البنّاني بدوره "إذا عجزنا عن التوافق ومررنا إلى تنظيم استفتاء فإنّ ذلك لا يقلقنا ولا يخيفنا لأنّ لنا ثقة في شعبنا بأنّه سيختار دستورا يمثّله، وسينتصر للهويّة العربيّة الإسلاميّة .." في الجهة المقابلة، متى ذكرتَ لخصوم النهضة كلمة الشعب والشرعيّة الشعبيّة وأنّ "الشعب مسلم ولا يستسلم" نبت الشوكُ على ألسنتهم، فدعوا إلى إبعاد الشعب عن التجاذبات ! النائب عن "الجمهوريّ" عصام الشابي شبّه الاستفتاء بالشبح (يقصد الغول أو الكابوس) قائلا إنّه " يعدّ مغامرة غير محسوبة العواقب"، فيما يذهب أحد مناضلي "الوطد الموحّد" إلى أنّ الاستفتاء على الدستور "يطرح عدّة إشكالات قانونيّة وتقنيّة. وقد يحيد عن هدفه فيتحوّل من استفتاء على الدستور إلى استفتاء على صاحب الدستور". استفتاء على صاحب الدستور، وهنا مربط الفرس !
فإذا كانت أطياف المعارضة تعترف أنّ الاستفتاء على الدستور غير مضمون النتيجة، فلا مناص، حينئذ، من الانخراط الناجع والفاعل في الحوار حول الدستور، وتوسيع قاعدة الأنصار، وحشد الحجج والدعائم لوجهات نظرها بين نوّاب المجلس أوّلا وبين المواطنين من جهة ثانية عوض الاكتفاء بالرفض المطلق والتهديد بتمزيق المسوّدة، ومقاطعة المجلس الوطني التأسيسيّ، وإنهاء المرحلة الانتقاليّة. لست واثقا إن كان أصحاب هذه الدعوات جادّين، وهل هم واثقون من قدرتهم على السيطرة على الأمور ثوريّا إنْ حدث الفراغ.. أم هو الولع بالعنتريات والحذلقات، وكم جرّتا علينا من الويلات .. صوت الخبراء يقول ما يلي: في المسوّدة الأخيرة تطوّر بالقياس إلى سابقاتها، ومن الواجب مزيد تطويرها، وإدخال التعديلات عليها في مواطن معلومة كالتوطئة وباب السلطة التنفيذيّة والباب العاشر الخاصّ بالأحكام الانتقاليّة، وغيرها من المواضع المحدّدة. وهذه مواضع من الممكن العودة لمناقشتها واقتراح الحلول لها في صلب لجنة داخل المجلس التأسيسيّ تضمّ أعضاء من المجلس والمقرّر العامّ وخبراء في القانون الدستوري . عودا على بدء. ما ناقشتُ نهضويّا إلاّ رفع في وجهي راية الشرعيّة الانتخابيّة والأغلبيّة، وهدّدني بالاحتكام إلى الشعب، وذكّرني – إن كنتُ ناسيا – أنّ الشعب مسلم ولن يستسلم، وحذّرني أنّه لو اُستُفتي الشعب الكريم عن تطبيق الشريعة لصوّت في غالبيّته بنعم. وكما أعلمُ أنا واللّه وصديقي النهضويّ، فإنّ عامّة الفرحين بتطبيق الشريعة ينظرون إلى الموضوع من زاوية فيلم "الرسالة" للمرحوم مصطفى العقّاد لا أكثر. العقّاد الذي قتله أحد "المجاهدين" متصوّراً هو أيضا أنّه يطبّق الشريعة نفسها ! صديق سيّء الظنّ بالناس قال لي وهو المغرم بالتوقّعات: هَبْ أنّ بلادنا تونس – حرسها الله وحمى وحدتها – انشطرت إلى اثنيْن. واُسْتُفْتِي الشعب، في أثناء ذلك، على دستور مدنيّ وآخر دينيّ. قال صديقي السيّء الظنّ بالجماهير إنّ التونسيّين في غالبيّتهم سيصوّتون لدستور قائم على الشريعة السمحاء، ولكنّهم سيلتحقون فورا للعيش في الشطر الثاني الذي اختار دستورا مدنيّا قائما على الديمقراطية وحقوق الإنسان ! ما أسوأ ظنّه بالشعب !
|
بقلم مختار الخلفاوي |