زيارة “الغريبة” أو موسم “حج” اليهود إلى معبد “الغريبة” .. حدث هام أصبح يميز تونس، في هذه الفترة من كل سنة، وبالأخص جزيرة جربة (جنوب شرق) التي تحتضن الكنيس اليهودي .. ذاك الكنيس الأقدم في إفريقيا الذي يقع في منطقة صغيرة تسمى “الحارة الصغيرة” بمنطقة الرياض، (على بعد كيلومترات جنوب غرب مدينة حومة السوق، أكبر مدن الجزيرة).
“الحج” إلى الغريبة حدث يستقطب الأنظار والاهتمام وطنيا وعالميا .. هو حدث ديني وسياحي في الآن ذاته، إذ أنه يستقطب الزوار اليهود من كافة أنحاء العالم، ما يبرهن على أن تونس، وكما كانت دوما، هي أرض تسامح وتعايش بين الأديان وقبول التنوع والإختلاف.
لزيارة الغريبة طقوسها الخاصة .. طقوس يراها البعض غريبة ومحملة بالأساطير وبما جاد به المخيال الشعبي لدى اليهود، وهو ما لا يختلف كثيرا عن السائد في المعتقد .. فهي جملة من “المناسك” اقترنت بأتباع الديانة اليهودية وأصبحت تقليدا سنويا، منذ حوالي مائتي سنة، يحتضنه معبد هو الأقدم في إفريقيا لتجاوزه 2500 سنة .. فالحديث عن هذه “المناسك” والطقوس يثير شغف التونسيين وغيرهم .. طقوس تستعمل فيها الشموع والبيض ومشروب “البوخا” وتتخللها حفلات غنائية وغيرها مما جاد به الموروث الاجتماعي والثقافي.
ما يعرف عن نشأة “الغريبة” أنها تقع بـ”الحارة الصغيرة” من منطقة “الرياض” بجزبرة جربة حيث تتواجد عشرات العائلات اليهودية .. وقصتها محل اختلاف حتى لدى اليهود أنفسهم لخلطهم في هذا الجانب بين الأسطورة والواقع .. فالأسطورة تقول إن المعبد بني على قبر امرأة يهودية غريبة صغيرة السن قدمت من بعيد واستقر بها المقام في تلك المنطقة .. وهو السائد لدى أغلب الزوار اليهود .. في حين تقول روايات أخرى إن المعبد بني تعظيما لحجر مقدّس جيئ به من “أرض غريبة”، وهي أصل التسمية، وهو ما يدافع عنه بشدة “خضير” المشرف على المعبد.
وبين الواقع والخيال في ما يقال عن معبد الغريبة وعن حج اليهود إليه، أصبح هذا الأمر اليوم واقعا ومناسبة مميزة يعتز بها التونسيون ويفاخرون، وتتجند لها السلطات التونسية لتأمين قدوم الآلاف من اتباع هذه الديانة الى جزيرة جربة في أفضل الظروف .. فالجزيرة تشهد خلال هذه الفترة تعزيزات أمنية مكثفة في كافة أنحائها، ويتم تركيز وحدات “سكانار” بمداخلها للقيام بعمليات التفتيش والتدقيق.
فليس من السهل، عشية انطلاق زيارة الغريبة، دخول “الحارة الصغرى” أو “الحارة الكبرى” .. المنطقة جد مؤمنة وتم إغلاق مختلف مداخلها .. فمجرد تناول “بريكة” لدى اسحاق (تاجر يهودي) يستدعي التوقف أكثر من مرة عند الحواجز الأمنية.
في جربة لا حديث بين متساكنيها، المسلمون منهم واليهود، سوى عن “الغريبة” والاستعدادات الأمنية وضرورة إنجاح هذه المناسبة الدينية ما يساعد ويساهم في إنجاح انطلاقة موسم السياحة التونسية وإنعاش الحركة الاقتصادية.
يهود جربة يفتتحون الموسم باحتفال ديني مصغّر احتفاء بالـ”ربِّ مير”، وهو أحد الكهنة اليهود الذي له شأن منذ مئات السنين في الحفاظ على تعاليم الديانة وتعاليمها وأقيم “ربّ مير” لهذا الموسم ليلة الأربعاء الماضي بحضور قرابة 500 شخص وهو عدد مرتفع مقارنة بالسنوات الماضية.
أما اليوم الأول من الزيارة الرسمية لليهود فهو يوم الخرجة الصغرى، الذي بدأ معه اكتشاف المكان الذي يتميز بقدسية وأهمية كبرى لدى كافة يهود العالم .. فالمعبد بناية كبرى تنقسم إلى جزءين، في الجانب الأيسر منه تقع بيت الصلاة وهو مكان آداء الطقوس والصلوات، كتب على لافتة معلقة داخله بأربع لغات “يرجع هذا المقام العتيق والمقدس المعروف المعروف بالغريبة إلى عام 586 قبل الحساب الافرنجي، أي منذ خراب الهيكل الأول لسليمان تحت سلطة “نبوخذ نصر” ملك بابل، وقد وقع ترميمه عبر العصور.”
ودخول هذا البيت، الذي توجد فيه واحدة من أقدم نسخ التوراة في العالم مقترن بآداب لابد من احترامها، يفرض على النساء والرجال تغطية رؤوسهم ونزع أحذيتهم لدخول المقام الذي يقع فيه القبو مكان الحجر المقدس، وهو ما يحرص “خضير حنيا ” حارس للمعبد لعشرين سنة، على التنبيه إليه.
وفي هذا المقام يوجد جمع من الرجال والنساء اللاتي يصلين ويدعين ويكتبن أمانيهن على البيض ويصطففن أمام القبو لوضعه في المكان المخصص له ويضئن الشموع ثم يلتحقن برجل عجوز، وهو “شخص مبارك” في اعتقادهم، ليقرأ لهم أجزاء من أحد كتب التوراة ويشربون إثرها “البوخا” ويتناولون الفواكه الجافة.
أما الجانب الأيمن من المبنى فهو فضاء ينتصب فيه عدد من باعة الصناعات التقليدية وترفع فيه الأعلام التونسية، وتجرى فيه مساء اليوم الأول والأخير احتفالات الخرجتين الصغرى والكبرى اللتان يتم فيهما جمع التبرعات من قبل رجل أربعيني، عبر بيع أغراض بسيطة كالزهور والشموع التي علقت على المنارة (قنديل كبير)، وذلك على وقع الأغاني التونسية والعربية، وهي تبرعات تجمع لفائدة المعبد وتصل إلى حوالي عشرين ألف دينار، وفق ما قدره روني الطرابلسي أحد منظمي زيارة الغريبة.
وبخصوص اليوم الأخير من الزيارة، فهو لا يختلف كثيرا عن اليوم الأول من حيث آداء الطقوس والاحتفالات لكنه يشهد ارتفاعا في عدد الزوار بالنظر إلى قدوم السياح الأجانب والفنانين والسياسيين والبرلمانيين والسفراء ورجال الدين، ما يبرز أن “حج” الغريبة هو حدث سياحي هام ويؤكد أن تونس أرض للتسامح وللتعايش السلمي بين الأديان ووطن لجميع أبنائها دون اعتبار لدياناتهم ومعتقداتهم.
في حدود الساعة الخامسة من مساء أمس الأحد، وعلى وقع الزغاريد والأناشيد انتهت احتفالات الغريبة بإخراج “المنارة” وإرجاعها من الجانب الأيمن من المبنى مكان الإحتفال إلى بيت الصلاة.