يقوم اتحاد الشغل هذه الأيام بدور محوري في المشاورات الجارية حول الخروج من الأزمة السياسية الراهنة بين حركة النهضة والمعارضة والتي تفاقمت بعيد اغتيال الشهيد محمد البراهمي. وتضطلع المنظمة الشغيلة بهذا الدور (مع المنظمات الثلاث الراعية وهي منظمة الأعراف وعمادة المحامين ورابطة الدفاع عن …
تونس: منذ ما قبل الاستقلال، اتحاد الشغل في قلب الحراك السياسي التونسي |
يقوم اتحاد الشغل هذه الأيام بدور محوري في المشاورات الجارية حول الخروج من الأزمة السياسية الراهنة بين حركة النهضة والمعارضة والتي تفاقمت بعيد اغتيال الشهيد محمد البراهمي. وتضطلع المنظمة الشغيلة بهذا الدور (مع المنظمات الثلاث الراعية وهي منظمة الأعراف وعمادة المحامين ورابطة الدفاع عن حقوق الانسان ) بالرغم عن المواقف المضادة لها والتي طالما لوحت بها حركة النهضة في أزماتها مع الاتحاد وحتى شق راديكالي من المعارضة لا يطمئن البتة لما يسمونه "البيروقراطية النقابية" . فماذا جعل الاتحاد يعود إلى المراكز السياسية الأولى وما هي نتائج هذا الدور المحوري على التوازنات السياسية في المستقبل؟ منذ تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل وخاصة منذ تولي الشهيد فرحات حشاد أمانته العامة وانخراطه الكامل في معركة التحرير الوطني مساندا ومعاضدا للحزب الحر الدستوري التونسي بقيادة بورقيبة تبوأ اتحاد الشغل مركز ثقل سياسي ما زادت الأزمات والمواجهات حتى مع الحليف الدستوري إلا ترسيخه في المشهد السياسي . الدورالمحوري في الكفاح الوطني وتجلت هذه المكانة للنقابات منذ اللحظات الأولى للاستقلال حيث وجد النظام الوطني الجديد في النخبة النقابية تعزيزا لسد حاجاته من الكوادر الوطنية المطلوبة لبناء الدولة الجديدة . كما تجلى تأثير المنظمة الشغيلة في استلهام الحزب الدستوري البعض من برامجها الاقتصادية والاجتماعية وصولا إلى التبني الكامل لبرنامج الاتحاد في مؤتمر بنزرت للحزب الدستوري الذي تحول معه الحزب إلى الاشتراكية التعاضدية وصعود ابن الاتحاد أحمد بن صالح إلى المراتب السياسية الأولى في الحزب والدولة البورقيبية . وعلى الصعيد السياسي واصل الاتحاد دوره المتميز عبر التأثير الكبير الذي كان للمرحوم أحمد التليلي الأمين العام للإتحاد ومناداته قبل الجميع بضرورة الانفتاح الديمقراطي في الوقت الذي كان بورقيبة إثر انقلاب 1962 يقفل أبواب الحرية والتعددية في البلاد ليستفرد بالحكم لفترة طويلة. ومع تصاعد قمع الحريات وبداية التضييق على النخبة السياسية والطالبية في تونس الستينات انبرى الاتحاد مدافعا ومؤازرا مما جعل العديد من الاطارات السياسية الملاحقة تحتمي بالعمل النقابي هربا من مواجهة الآلة القمعية للنظام البورقيبي. وتزايد تواجد الحساسيات السياسية اليسارية وتأثيرها داخل الاتحاد إلى درجة احراج الزعيم النقابي الحبيب عاشور بالرغم من مكانته المعروفة لدى بورقيبة ودوره في الكفاح الوطني وفي بناء الدولة الجديدة. الدور المحوري في النضال ضد الدكتاتورية وعرفت البلاد أكبر أزماتها السياسية بدأ بأزمة الخميس الأسود 26 جانفي 1978 وأزمة 1985 اللتين شهدتا أوج الصراع بين النظام البورقيبي المتهاوي واتحاد الشغل الذي كان في أعتى فترات إشعاعه واستقطابه للنخب السياسية الفاعلة من اليسار التونسي. ومنذ ذلك التاريخ وبالرغم عن المظالم التي سلطت على الاتحاد من استحداث للنقابات الصفراء إلى الملاحقات القضائية والتنكيل السياسي فإن المنظمة الشغيلة أصبحت الرقم الصعب في الخارطة السياسية التونسية والحزب الأكبر دون أن تكون حزبا متجانسا أو موحدا. وهذا ما حدا ببن علي لدى وصوله للسلطة في 1987 للعمل على تحييد المنظمة أولا برفع مظالم العهد البورقيبي وبتسهيل عقد مؤتمر استثنائي لها وصعود اسماعيل السحباني للأمانة العامة في 1988 . وبالرغم من "شهر العسل " الذي تواصل لمدة بين بن علي والسحباني إلا أن مسائل تتعلق بطموحات السحباني وبحجم المنظمة أدت ببن علي إلى الانقلاب عليه وبزجه في السجن وبصعود قيادة جديدة بقيادة عبد السلام جراد الرجل الثاني في المنظمة آنذاك. ورغم المهادنة الواضحة للقيادة النقابية للنظام النوفمبري شأن كل الفاعلين السياسيين في حينه فإن هذا لم يمنع تواصل توافد المناضلين السياسيين الذين سدت في أوجههم منافذ العمل السياسي إلى "خيمة الإتحاد ولم يمنع تواصل النضالات القطاعية التي كثيرا ما تجاوزت حتى صلاحيات القيادة المركزية في تعاملها مع مستجدات الوضع الاجتماعي والاقتصادي …
الإتحاد في الثورة وبعد الثورة وقد كان لهذا التمركز النقابي في صلب النضالات الاجتماعية العميقة في المجتمع التونسي التأثير الأكبر على المنظمة الشغيلة منذ انطلاق الثورة التونسية يوم 17 ديسمبر في سيدي بوزيد وحتى تتويجها بمظاهرة صفاقس وإضرابها العام يوم 13 جانفي وبالتحركات الضخمة التي قادتها القيادات الجهوية والمحلية للاتحاد في كل أرجاء البلاد. وقد انخرط الاحاد كليا في الدور الذي بوأته له الأحداث وكان اللاعب المركزي في التفهامات التي رافقت حكومة الغنوشي الأولى والثانية وبعدئذ مع حكومة السبسي وبالرغم من الانتقادات التي رافقت صعود حكومة الترويكا لدور الاتحاد بعد 23 أكتوبر إلا أن المد والجزر تتالى دون هوادة ما بين العدائية المعلنة للاتحاد من شق كبير من الاسلاميين الغيورين من الحجم المتزايد للاتحاد في اللعبة السياسية وما بين شق منهم ومن حزبي المؤتمر والتكتل مدرك أن هذا اللاعب الاساسي غير قابل للحذف أو للتهميش مهما كانت التوازنات في الساحة السياسية. اللاعب السياسي في قلب الأزمة ومن هنا جاء الدور الذي انبرى للعبه الاتحاد مباشرة إثر اغتيال الشهيد محمد البراهمي والتصعيد الكامل الذي اعتمدته المعارضة والذي قابله تجييش مماثل في صفوف أنصار الترويكا الحاكمة كان سيؤدي للتصادم الكامل ولتحكيم الشارع وتقويض المسار الانتقالي بأكمله . وقد عمد الاتحاد مباشرة في خضم الأزمة لاتخاذ موقف وسط بين الطرفين مؤيدا استقالة الحومة من جهة ورافضا حل التأسيسي من جهة أخرى مما جعله بعد التقاء السبسي والغنوشي في باريس المعني الأول بدور الوساطة بين الطرفين مع المنظمات الثلاث الأخرى شريكته حتى تلك الساعة في إدارة الحوار الوطني المنقطع منذ ما قبل اغتيال البراهمي. وبالرغم من النتائج التي لم تؤدي إلى الآن إلى حل الأزمة نتيجة تعنت هذا الطرف أو ذاك ونتيجة الحسابات السياسية لكل طرف فإن الاتحاد العام التونسي للشغل يضيف إلى رصيده الوطني علامة مضيئة أخرى تزيد من تأثيره السياسي وتؤهله في المستقبل لممارسة الدور المحوري في البلاد. ولئن حاول الشق الاسلامي المتشدد في حركة النهضة الاستنقاص من هذا الدور بتعطيل المفاوضات أولا وبالجنوح إلى تكتيك النقابات الصفراء مرة أخرى عبر استحداث منظمة العمل التونسي التي أعلن عن انشائها من قبل منشقين ذوو اتجاه اسلامي عن الاتحاد فإن هذه المحاولات لا تنفع شيئا خاصة مع ازدياد اشعاع الاتحاد عبر الإعلام وعبر التحالف الاستراتيجي المعقود حاليا مع أهم ثلاثة قطاعات فاعلة في المجتمع التونسي , وهي اتحاد الأعراف مما يعطي سيطرة كاملة على الملف الاقتصادي للاتحادين ومع رابطة الدفاع عن حقوق الانسان مما يفتح باب التأثير المباشر على الساحة الحقوقية المحلية والدولية ومع الهيئة الوطنية للمحامين التي يمكن لها التأثير تأثيرا واسعا على كل الملفات القضائية الحالية والقادمة في البلاد وخارجها .
|
علي الشتوي |