مازالت الحملة الانتخابية للانتخابات التشريعية 2019 مستمرة إلى يوم 4 أكتوبر القادم، قبل دخول مرحلة الصمت الانتخابي يوم 5 أكتوبر ثم عملية الاقتراع يوم 6 أكتوبر، إذ تواصل القائمات المترشحة عرض برامجها على المقترعين بوسائل مختلفة منها الحضور الإعلامي وتعليق البيانات الانتخابية في الأماكن التي خصّصتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
يبلغ عدد القائمات المترشحة للانتخابات التشريعية 1507 قائمة موزعة على 33 دائرة انتخابية في الجمهورية التونسية والخارج، وفق إحصائيات رسمية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات. إلا أن المتأمل في البرامج الانتخابية لهذه القائمات التي ستتنافس على 217 مقعدا في مجلس نواب الشعب للمدة النيابية 2019-2024، يلاحظ إما غيابا كليا للثقافة في البرامج الانتخابية للمترشحين أو حضور نقطة ثقافية يتيمة تتذيل البرنامج.
ويفسّر غياب الثقافة في أغلب البرامج الانتخابية أو تذيّلها للبرمجة مقابل طغيان الجوانب الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بأن الثقافة ليست من أولويات المترشحين عن هذه القائمات سواءً كانت حزبية أو مستقلة أو ائتلافية، رغم ورود اسم عدد من الفنانين في بعض هذه القائمات، وذلك وفق ما أفصح عنه فنانون في حديثهم لوكالة تونس إفريقيا للأنباء.
واتصلت (وات) بعدد من الممثلين المترشحين للانتخابات التشريعية، لكن بعضهم رفض الحديث عن الموضوع، فيما تعذّر الاتصال بالبعض الآخر.
واعتبر فنانون ومثقفون ومسؤولون عن نقابات تهتم بالشأن الثقافي والأدبي والفني، في تصريحات متطابقة لـ (وات) أن غياب الثقافة عن البرامج الانتخابية للمترشحين للبرلمان، يعكس مكانة الثقافة لدى هؤلاء ممن يعتزمون تقاسم السلطة السياسية مستقبلا في تونس. وشدّد جلّهم على ضرورة أن يأخذ أعضاء البرلمان القادم على عاتقهم مهمة الإسراع بالمصادقة على قانون الفنان والمهن الفنية.
وفي هذا السياق، تحدّث الفنان المسرحي جمال العروي، أمين عام للنقابة الوطنية المستقلة لمحترفي مهن الفنون الدرامية لـ(وات) مبديا استغرابه الشديد من غياب برنامج ثقافي للمترشحين، قائلا إن هذا الغياب أبرز دليل على أن المترشحين للانتخابات التشريعية لا يعنيهم الشأن الثقافي. ودعاهم إلى توضيح برامجهم لأهل القطاع، مضيفا “نحن مستعدون لعقد لقاءات مع المترشحين للاستماع إلى برامجهم ولتقديم مقترحاتنا لهم في هذا الشأن”.
– في انتظار المصادقة على قانون الفنان
ودعا جمال العروي المترشحين الذين سيفوزون بعضوية مجلس نواب الشعب، إلى متابعة مشروع قانون الفنان والمهن الفنية وجعله من أولويات عملهم والتسريع بالمصادقة عليه.
ولا يؤيد العروي فكرة وجود فنانين في السباق الانتخابي نحو البرلمان، فهو يرى أن الفنان ينبغي أن يظل مستقلا وأن يُبدي مواقفه من السياسة لا أن ينخرط في الشأن السياسي مباشرة عبر الانضمام إلى الأحزاب. ويعتقد أن العلاقة مع الجمهور يمكن أن تنهار إذا لم يف المترشح بتعهداته.
غير بعيد عن موقف جمال العروي الرافض لفكرة ترشح الفنانين لعضوية البرلمان، يرى رئيس النقابة التونسية لقطاع الموسيقى مقداد السهيلي أن ترشح فنانين في قائمات حزبية لن يساهم في دفع المشاريع الثقافية ولن يضع الثقافة ضمن أولويات عملهم.
ولاحظ مقداد السهيلي “غيابا تاما” و”إقصاءً” للعمل الثقافي والفكري في البرامج الانتخابية، مضيفا “اطلعت على أغلب برامج المترشحين، فوجدت أن الثقافة هي آخر اهتماماتهم”.
ووصف السهيلي الفنانين المترشحين للانتخابات بالدخول في قائمات انتفاعية لتحقيق مكاسب فردية وليست قطاعية، وفق تعبيره. كما دعا، على غرار جمال العروي، إلى التسريع بالمصادقة على قانون الفنان والمهن الفنية ودعم التشريعات المتعلّقة بحقوق التأليف والملكية الفكرية والأدبية للأعمال الفنية.
وعبّر أمين عام اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وسام غرس الله عن استغرابه من تركيز المترشحين في برامجهم على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فقط، مقابل إهمال الجانب الثقافي وما ينجرّ عن ذلك من تغييب لكل ما هو فكري وإنساني في المشروع المجتمعي، خاصة في ظل التهديدات الإرهابية القائمة.
وأوصى غرس الله الأعضاء الذين سيمثلون الشعب في المدة النيابية القادمة، بالإسراع في المصادقة على قانون الفنان والمهن الفنية ودعم الثقافة وحرية التعبير والانفتاح على الثقافة العالمية مع المحافظة على الهوية الثقافية الوطنية وعدم الارتهان للفكر الانغلاقي ودعا إلى التأسيس لقوانين تسمح بتصدير الثقافة التونسية.
“غياب الثقافة عن البرامج الانتخابية” للمتنافسين في سباق الانتخابات التشريعية، لفت أيضا انتباه رئيس اتحاد الناشرين التونسيين محمد صالح المعالج الذي لاحظ كذلك أن الثقافة غابت عن برامج المترشحين للانتخابات الرئاسية.
واستغرب استثناء الثقافة من برنامج القائمات المترشحة للانتخابات التشريعية، مقابل بروز برامج في مختلف المجالات الأخرى، قائلا “المترشحون لم يفسحوا لنا المجال حتى لنحلم على الأقل”. وأضاف: “هذا يعطي فكرة للناخبين عن الفراغ في برامج المترشحين الذين لم يحققوا إلا الضئيل من وعودهم في انتخابات 2011 و2014”.
ويعتقد المعالج أن السياسي المحنك عادة ما تكون له رؤية ثقافية، “وهذا ما أثبتته التجارب في الدول المتقدمة التي تُعلي من قيمة الثقافة لترتقي بشعوبها”.
وأوصى بأهمية التركيز على الجانب الثقافي، لما للثقافة من دور في بث الفكر التنويري والنهوض بالشعوب ومقاومة التطرف الديني.
– غياب مشروع ثقافي وطني
وتحدّث الناشط الثقافي، الفنان المسرحي والمنتج، الحبيب بالهادي عن حضور الثقافة في برامج انتخابية وغيابها عن برامج انتخابية أخرى، موضحا أن الثقافة لئن كانت موجودة في بعض القائمات فإن المترشحين ليسوا على دراية ومعرفة بالثقافة ولم يعودوا إلى أهل القطاع للاستماع إليهم وإلى مقترحاتهم.
وبخصوص موقفه من وجود أسماء مبدعين في قائمات انتخابية، عبّر بالهادي عن عدم ثقته في هذه القائمات المترشحة، رغم حاجة القطاع لتمثيلية في البرلمان للدفاع عن منظوريه.
ويذهب الحبيب بالهادي إلى أبعد من ذلك، حيث يعتبر أن أهل الثقافة أنفسهم لا يملكون مشروعا ثقافيا وطنيا ليدافعوا عنه، معبّرا عن أسفه لدخول بعض المثقفين تحت مظلة السياسيين، فوق تعبيره.
وأكد على ضرورة صياغة مشروع ثقافي وطني متكامل يضمّ جميع القطاعات الفنية، ومن ثمة عرضه على الكتل السياسية للدفاع عنه في البرلمان.
وفي رسالته للبرلمان القادم، عبّر الحبيب بالهادي عن أمله في المصادقة على مقترح الحكومة الترفيع ميزانية وزارة الشؤون الثقافية، لتبلغ نسبة 1 بالمائة من الميزانية العامة للدولة.
– المترشحون والناخبون طرفان متشابهان
تفسّر الأستاذة الجامعية سلوى الشرفي، ظاهرة تركيز المترشحين للانتخابات البرلمانية على المسائل الأخرى غير المسألة الثقافية بأن “المترشحين والناخبين طرفان متشابهان”.
إذ ترى الشرفي الباحثة في علوم الاتصال والميديا، أن المترشحين لا يقرؤون الكتب ولا يذهبون إلى المسرح ولا إلى السينما ولا يتردّدون على معارض الفنون التشكيليّة، بل هم، في تقديرها، “كعموم الشعب يُقبلون على الثقافة التجارية”. مضيفة بالقول: “حتى المترشحين للانتخابات الرئاسية لم يتحدّثوا عن الثقافة وغابت عن برامجهم، رغم وجود مثقفين وكتاب ضمن المترشحين”.
وتعتبر سلوى الشرفي الأستاذة بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار، أن تونس بشعبها وسياسييها وإعلامها لا يهتمون بالثقافة، مؤكدة أن “الإعلام يخضع لأجندات وأن السياسة هي أكبر أجندا تستحوذ على المساحة الإعلامية في أوقات ذروة المشاهدة”.
-غياب الإرادة السياسية والسياسة الثقافية
الإرادة السياسة لتطوير الثقافة هي في تقدير الشرفي مفقودة، رغم أن الحلول ممكنة لذلك. واستندت في موقفها إلى ضعف الميزانية المرصودة للثقافة، وقالت في هذا الصدد “يُفترض أن تكون الميزانية المخصّصة للثقافة معقولة لخدمة القطاع الثقافي، “وهذا ما يُفسر اليوم غياب سياسة ثقافية على المستوى السياسي”.
وتدحض المواقف التي تعتبر أن السياسة هي الأساس في العمل السياسي وتعتبره موقفا خاطئا. وتشدّد في المقابل على أن الحديث ينبغي أن يكون عن السياسة الثقافية والتربوية، “عدا ذلك يُصبح كل ما هو فكر مغيّب”.
“الشعب والسياسيون في حالة غيبوبة جماعية”، هكذا تصف الأستاذة سلوى الشرفي المشهد العام في تونس في علاقته بالثقافي. وترى أن “الشعب الذي لا يقرأ لا يُمكن أن يكون واعيا ولا أن يُحسن الاختيار سياسيّا”، وذلك يعود في تقديرها إلى أن “الشعب ليس مثقفا كفاية لأن السياسة الثقافية مغيبة”.
ودعت الشرفي، في اتصال مع (وات) إلى الاهتمام بالشأن الثقافي وكسر حلقة الشعب غير المثقف الذي ينتج سياسيين غير مثقفين يفتقدون لسياسة ثقافية مما ينجر عنه تغييب للثقافة، وهي نية غير مقصودة لتحقير الشعب ثقافيا، حسب تحليلها. ويكون كسر هذه الحلقة، بحسب المصدر ذاته بتكوين جيل مثقف في المدارس ودفع التلاميذ للاهتمام بالثقافة، وفتح مجال للثقافة والفكر في وسائل الإعلام في أوقات ذروة المشاهدة بالخصوص.
وتعتبر أن هذا الأمر يمكن تداركه على المدى القريب، ففي ظرف خمس سنوات يمكن أن نزرع جيلا مثقفا وقادرا على أن يُحسن الاختيار سياسيا، في تقديرها. وتشدّد على أن الثقافة هي المادة الوحيدة التي تقوّي الفكر النقدي وتقدّم منهجا للنظر للأشياء بطريقة أخرى.