سوسة: النهوض بالسياحة الثقافية بين تجارب توظيف ناجحة وضرورة ملحة لإنقاذ عدّة معالم تراثية أو صيانتها وإعادة إحياء المدينة العتيقة

شغلت مسألة توظيف المعالم التراثية بالمدينة العتيقة للنهوض بالسياحة الثقافية منذ سنوات العديد من أصحاب القرار والفاعلين في الدولة والمجتمع المدني من ذلك تجربة ولاية سوسة التي حققت بعض النجاحات غير أنّها تظل محتشمة في غياب إنقاذ عدّة معالم أو صيانة ما سبق إنقاذه أو ترميمه وإعادة إحياء المدينة العتيقة وحمايتها خاصة من الاعتداءات والتشويه.

ويحظى زائر المتحف الأثري بسوسة بفكرة شاملة عن تاريخ هذه المدينة لاحتضانه قطعا أثرية لمختلف الحقبات التاريخية حسب ما أفادت وكالة تونس أفريقيا للأنباء (وات) المحافظة المستشارة بالمتحف الأثري بسوسة ألفة بن سعيد ، موضحة أنّ المتحف ليس مجرد قطع أثرية بل ساهمت القصبة في إعادة تثمينه وتثمين المدينة العتيقة لسوسة التي أدرجتها اليونسكو منذ 9 ديسمبر 1988 ضمن التراث العالمي.

وانطلق متحف سوسة الأثري منذ سنة 2012 في ترسيخ ثقافة التربية المتحفية التي نجحت في استقطاب الجمهور التلمذي والطلابي واطارات تربوية والمجتمع المدني حسب ألفة بن سعيد. وشرع منذ 2017 في تنفيذ مشروع لتطويع المتحف للمبصرين بالتعاون مع جمعية الاتحاد الثقافي بسوسة وجمعية “أنامل مبصرة” ومدرسة النور للكفيف بسوسة والمندوبية الجهوية للتربية بسوسة وأنجزوا بعض المجسمات للقصبة ولعبة فسيفساء وفق بن سعيد التي بيّنت أنّ سياحة المتاحف بالنسبة إلى الطفل ليست مجرد زيارة بل هي فرصة للعب أو المشاركة في حفرية أو المطالعة وهي أنشطة تمرر له عبرها عدّة رسائل كعدم لمس القطع الأثرية والمحافظة على المدينة العتيقة بعدم إلقاء حتى ورقة صغيرة أرضا أو الكتابة على حيطانها باعتباره يشوه جماليتها ونظافتها.

وتضيف من جهتها رئيسة جمعية الاتحاد الثقافي بسوسة نفيسة بن سوسية، أنّ 600 تلميذ وتلميذة تفاعلوا منذ 2012 مع هذه التجربة التي يحاولون عبرها تقريب الطفل إلى تراثه التونسي علاوة على أنّهم ينظمون جولات مع التلاميذ رفقة أوليائهم تنطلق بداية من المتحف الاثري بسوسة وصولا إلى مقر الجمعية بمعلم سيدي يحي بباب بحر مرورا بعدّة معالم.

وتعمل المندوبية الجهوية للسياحة بسوسة مع إدارة متحف سوسة والمعهد الوطني للتراث والمندوبية الجهوية للشؤون الثقافية على ترويج السياحة الثقافة والتراث المادي واللامادي من ذلك استقبال في بداية مارس 2020 لحوالي 50 فسيفسائي من عدّة دول شاركوا في انجاز لوحة فسيفسائية مستوحاة من موقع تكرونة الذي تعمل المندوبية حاليا مع بقية الأطراف على توظيفه علميا مع إمكانية الاستثمار في الاستضافات الريفية والاقامات العائلية “فهرقلة معتمدية فلاحية يمكن أن تنجز فيها إقامات ريفية بصفة رائعة جدّا وكذلك في قرية كروسيا وبمعتمدية سيدي الهاني وفي الكراريا التي تضم ضيعة دولية بها اسطبل وغابات زيتون” حسب ما أفاد وات المندوب الجهوي للسياحة توفيق القايد.

وسجلت الجهة تجارب لترميم عدد من المنازل الخاصة وتحويلها إلى استضافات سياحية وترميم معالم وتوظيفها كمقرات للجمعيات أو الإدارات من ذلك “دار بعزبز” في المدينة العتيقة بسوسة التي تعود إلى سنة 1775 أي القرن الثامن ميلادي غير أنّ المبنى الحالي يعود إلى بداية القرن العشرين وشهد آخر أشغال صيانة له خلال الفترة 2012 – 2015 حسب راضية قريبع بعزيز من أفراد العائلة مالكة هذه الدار التي عاشت فيها 7 أجيال متتالية.

وكان لابّد من المحافظة على “روح الدار وذاكرة العائلة” حسب راضية وبالتالي لم يغيروا نمط العمارة الأصلي للغرف والأثاث والأواني القديمة ببيت المونة مع إضافة أثاث جديد على النمط التقليدي التونسي كتركيز فرش حجامي وشجرة العائلة وصور لعدد من افراد العائلة الذين توفوا. ويمر زائر “دار بعزيز” قبل الوصول إليها سواء عبر سبط بن عمر حسب التسمية المحلية السوسية للسباط أو سبط بن ريانة بعد أن يمر بالعديد من المعالم الأثرية الأخرى بالمدينة العتيقة. وتطالعه سقيفة الدار بمجرد فتح الباب ثم “الكوجينة” (المطبخ) بأفران الفحم وقبالتها قاعة الجلوس التي كانت غرفة تطل على وسط الدار التي بها ثلاثة غرف علتها أسماء من سكنوها سابقا كمحمود وبشير إذ قديما كانت الأسرة في الساحل جلّها تمارس النشاط الفلاحي (الزيتون) وهناك غرف نوم في الطابق الأوّل من الدار من بينها غرفة بها
ويوجد دهليز وهو بيت المؤنة فيه جرار الزيت والعولة من قمح وشعير وقد حوّل إلى قاعة أكل مع الاحتفاظ بالأسقف على شكل أقبية وبأسقف الغرف التي كان يستعمل الخشب في بنائها. ويعيش من يدخل هذه الدار في ضيافة أهلها الغائبون الحاضرون عبر صورهم وأغراضهم والحيطان التي حفظت أنفاسهم وذاكرتهم وذاكرة الأسرة التونسية الأصيلة ونمط العيش التونسي في المدينة العتيقة وجزء كبير من التراث اللامادي السوسي والتونسي.

وتعتبر راضية قريبع بعزبز أنّه “لابّد من انقاذ التراث إذ لنا كنوز في المدينة العتيقة التي لابّد من ترمينها وثمينها”. وشاطرها الرأي رضا القلي ابن المدينة العتيقة بحمام سوسة الذي قرر صيانة “دار الجدود” التي يعود بناؤها إلى 150 سنة ولم يدخل عليها تغييرات تذكر بل أرادها أن تكون حاملة لذاكرة أسرته فتحول إلى نابل لجلب الجليز التونسي واختار الجليز الأزرق اللون للسقيفة ولوسط الدار أمّا الحديقة التي تفصل بينهما فاختار لها اللون الأخضر المتماشي مع ألوان النباتات. ولم يفكر وقتها في تحويلها إلى درا ضيافة.

وعلق في السقيفة لوحات من مشاهد النشاط اليومي للمرأة “الحمامية” كرحي القمح ووضع مباشرة تحت اللوحة الرحى التونسية التي مازالت هناك أياد تصنعها في الكتار بولاية قفصة وعرض بعض الأواني الفخارية الخاصة بمدينة حمام سوسة ك”الدحدوح” الذي كان يستعمل لعجن الخبز و”الشارية ” وهي عبارة على قفة من السعف تحملها المرأة على رأسها عند التسوق لوضع الأغراض فيها أو لوضع الطفل الرضيع. ويأسف القلي على عدم بنائه للحمام العربي الذي يميز المنزل الحمامي الذي تتفرد به حمام سوسة غير أنّه حوّل الماجل إلى حنفية على شكل نافورة يحرسها إله البحار والمحيطات.

ويوجد قريبا من معلم “دار القلي” موقع معلم “بابور ماني” وهي تسمية محلية لمطحنة تقليدية بنيت منذ حوالي قرنين هدمت وتحوّل الموقع إلى مصب للزبلة ولفضلات البناء ومأوى للسيارات العرضية حسب القلي. ويعتبر أنور الفاني الأستاذ الباحث في التاريخ والناشط في جمعية صيانة مدينة سوسة منذ 1985 وابن المدينة العتيقة بسوسة أنّه “لابّد من تحسيس المتساكنين بأهمية المخزون التراثي والحضاري للمدينة العتيقة داخل السور وخارجه ولابّد من انقاذها ورد الاعتبار لها بأسمى معاني الكلمة إذ هناك فن عيش لابّد من المحافظة عليه”.

وتحتضن المدينة العتيقة بسوسة مخزونا حضاريا من أروع ما هو موجود في البلاد التونسية وفيها بين 47 و50 معلم هامّ من أبرزها السور الذي يمتد على حوالي 2 كلم و300 متر، والرباط والجامع الكبير والقصبة التي تحتضن المتحف الروماني وجميعها تعود إلى الق 3 هجري والتاسع ميلادي أي عصر الإمارة الأغلبية حسب الفاني.

وأكد الفاني أنّ جمعية صيانة مدينة سوسة عملت بالتعاون مع بلدية سوسة والمعهد الوطني للتراث على توظيف الزوايا ثقافيا وسياحيا بتمويل من البلدية ووزارة السياحة ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية كمشروع انقاذ دار الشرع التي كانت سنة 1994 خربة وأصبحت مركزا ثقافيا باعتماد قدره 200 ألف دينار وقع توفيره ضمن التعاون التونسي الفرنسي ووظفت سياحيا وثقافيا وتربويا ومعلم العلامة سيدي يحي، ومعلم القبة الذي أصبح في حاجة إلى الترميم والتجديد، ومعلم سيدي بوراوي، وزاوية الزقاق، السُفرة وهي خزان ماء من العهد البيزانطي استعملها المتساكون إلى حدّ الحرب العالمية الثانية علاوة على انجاز مسلك سياحي ثقافي في السور على طول حوالي 700 متر يمتد من السور القبلي بالقصبة إلى غاية جبانة الغربة لم يدخل بعد حيز الاستغلال. واعتبر أنّ المساعدات خلال السنوات الأخيرة تراجعت غير أنّه في حال تظافر الجهود يمكن التدخل لترميم عدّة معالم وتوظيفها كمعلم برج رشيد الواقع بجانب سوق باب جديد مؤكدا أنّ بلدية سوسة متفاعلة مع المجتمع المدني.

وكان المجلس الجهوي للسياحة بسوسة دعا في جلسة له سنة 2019 إلى تأهيل المدينة العتيقة بسوسة لتقوم بدورها الثقافي والسياحي بالجهة من خلال إعادة تهيئة المسلك السياحي وترميم عدد من المواقع التراثية. و”دفع السياحة الثقافية وتطوير المسالك السياحية الحالية وإحداث مسالك جديدة تعرّف المخزون التراثي خاصة داخل الجمهورية والارتقاء بصيغ الترويج لها وطنيا ودوليا” هو من بين أهداف وزارة الشؤون الثقافية التي أعلنت عنها منذ سنة 2017.
وأبرهت جمالية عمارة معلم مقام الامام يحي بن عمر ، مقر لجمعية الاتحاد الثقافي ومكتبة بباب بحر، السائحة الألمانية مارلان فدخلت لتتفاجأ بوجود مكتبة وقاعة مخطوطات.

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.