يرى خبراء في الاتصال وباحثون في علم الاجتماع أنّ “الشّعبوية” قد سيطرت على الخطاب السياسي في تونس في السّنتين الأخيرتين نتيجة صعود فاعلين سياسيين في انتخابات 2019 احتكروا الكلمة باسم الشعب وتماهوا مع ذلك إلى درجة اعتبار أنفسهم الممثلين الشرعيين والحقيقيين له في استثناء واضح لكلّ من لا يشبههم مؤكدين أنّ سنة 2019 كانت سنة بروز الشعبويين بامتياز.
ويعتبرون في تصريحات لـوكالة تونس افريقيا للانباء أنّ هذا النوع من الخطاب القائم على توجيه الانفعالات والاستثمار في الغضب وتقسيم الشعب بين “نحن” و”هم” إضافة الى شيطنة الخصم ينفي “التنوّع” و”التعدّد” ويؤدّي إلى تغييب “الأجسام الوسيطة” وازدراء “النخب” موضّحين أنّ الخطاب الشّعبوي يحمل في طيّاته نقدا صريحا ولاذعا لضعف أداء المؤسسّات السّيادية وللنّخب الحاكمة ويستطيع من خلاله القائد الشعبوي أن ينجح في “تأليب” جزء من الجمهور العريض على النُّخب وصنع رأيا عامّا مواليًا له.
كما يؤكّدون أيضا على أنّ مسؤولية انتشار هذا النوع من الخطاب يتحمّلها الإعلام الذي لم يلعب دوره الرقابي ،وفق تقديرهم، و”اكتفى بترذيل السياسيين والبحث عن الإثارة والنقل الحرفي لكلّ ما يقال دون تناوله بالبحث والتفسير”.
والشّعبوية، وفق تعريفات بعض المختصين، هي ظاهرة سياسيّة برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهي نمط من العمل والخطاب السياسي الذي يقوم على تبسيط الخطاب الموجه للجماهير وجعله أكثر مشاعرية وحساسية عوض الخطاب العقلاني القائم على الحسّ النقدي والمفردات السياسية الواضحة.
وفي هذا الإطار يوضّح الجامعي والباحث في الميديا الصادق الحمّامي أنّ الحديث باسم الشعب هو المعمول به في الديمقراطية التمثيلية التي وصفها بالديمقراطية الطبيعية لكنّه يشير إلى أنّ احتكاره من قبل فاعل سياسي إلى درجة التماهي والقول إنه الممثل الشرعي والأصلي والحقيقي للشعب في استثناء للآخرين يعدّ “شعبويّة” .
نفي التنوّع والتعدّد
ويشير الحمّامي إلى أنّ “الشعبوية ” هي طريقة من طرق الاتصال السياسي التي يحتكر فيها الفاعل السياسي الكلمة باسم الشعب وأنّ الخطاب الشعبوي يؤدّي إلى نفي التنوّع والتنافس على غرار ما يأتيه البعض مضيفا في الآن نفسه أنّ الخطاب الشعبوي هو خطاب عاطفي وسفسطائي وغير واقعي يلجا إليه السياسيين للحصول على رضاء الشعب .
كما يؤكّد وجود عناصر قارة في الخطاب الشعبوي ترتكز على الحقد على النخب السياسية باتهامها بخيانة الشعب خدمة لمصالحها وادعاء السياسي الشعبوي تمثيل الشعب الحقيقي والحديث باسمه كأنّه ضميره إضافة إلى استحضار المؤامرة الاجنبية بالتأكيد على وجود قوى اجنبية تتآمر على الشعب ومصيره
ويوضّح أنّ الشعبويّة تعدّ نوعا من الايديولوجيا “الخفيفة” لكن في مجملها ليست ايديولوجيا وإنما نوعا من الخطاب السياسي وطريقة ينتهجها الفاعل السياسي للحصول على رضاء الشعب خلافا للايديولوجيا التي تتصنف بدورها إلى عدّة أنواع كالليبرالية (الدستوري الحر) والقومية (حركة الشعب والتيار الشعبي) واليسارية (الوطد والحزب الشيوعي) والمحافظة الاسلامية (النهضة) .
أمّا الباحثة في علم الاجتماع فتحية السعيدي فتقول انّ الخطاب الشعبوي هو استراتيجية خطابية تندرج في جوهر العمل السياسي وله آليات أكّدها أغلب الدارسين للشعبوية على غرار الباحث الالماني “يان فيرنر مولر” وعالم الاجتماع الارجنتيني “ارنستو لاكلو” و الباحثة البلجيكية “شانتال موف” وترتكز أساسا على تزوير العقول والتلاعب بها وتزييف الوعي وتوجيه الانفعالات والاستثمار في الغضب وتقسيم الشعب والاستناد للمعايير القيمية والأخلاقية وشيطنة الخصم .
وتوضح أنّ هذه الآليات تصنع جمهور من المناصرين التابعين للفاعل الشعبوي وتسمح بتعويض مفهوم المواطن إلى “الشعب” لكن ليس بالمفهوم السياسي للكلمة وإنما بمعنى ان يصبح “تابع” لقائد أو حزب معيّن.
نمط التواصل وآلياته
يشير الحمامي إلى أنّ “القائد الشعبوي يسعى إلى إرساء نمط من التواصل مباشرة مع الشعب ولا يتكلّم إلا مع من يشبهه ” موضّحا أنّ الخطاب الشعبوي يختلف عن الخطاب الانتخابوي المبني على الوعود وأنّه برز في تونس سنة 2019 (الانتخابات التشريعية والرئاسية) بظهور أطراف تميّز خطابها بالشعبوية .
ويؤكّد في هذا الجانب على أنّ الفاعلين في تونس ليسوا كلّهم “شعبويين” لوجود من لهم استراتيجية أخرى في السياسة التي انتهجوها على غرار السياسة الميكافيلية التي انتشرت في تونس اثر الثورة وظلّت لعشرية من الزمن موضّحا أنّ الاستراتيجية الواقعية الميكيافيلية هي التي سيطرت على المشهد منذ سنة 2011 وبرزت أكثر مع حركة النهضة والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وكذلك رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد وهي استراتيجية تقوم على تقديم المصالح على القيم والمبادئ وتنبني عن التحالفات والسياسة الانتهازية موضّحا في هذا الإطار أنّ الفاعل السياسي الواقعي يستثنى الأخلاق والمبادئ والقيم ويتحالف مع من يسمح له بالحصول على قسط من السلطة.
كما يرى انّ الشعبوية طريقة من طرق الاتصال وأنّ السياسي الشعبوي لا يتعامل مع الاعلام والصحافة ويفضّل شبكات التواصل الاجتماعي لقناعته أنّ التفاعل مع الشعب لا يحتاج إلى وسيط كما ينتهجها بعض القادة الشعبويين في تونس اليوم في إشارة إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيسة الحزب الدستوري الحر خلافا للسياسي الميكيافيلي الذي يتعامل مع الصحافة وهو ما يفسّر وجود ممثّلين في البرامج الإخبارية الحوارية لكافّة الفاعلين السياسيين الذين حكموا تونس من 2011 إلى 2020
أمّا الباحثة في علم الاجتماع فتحية السعيدي فتؤكّد على أنّ الشعبوية آلية للعمل السياسي وأداة للتعبئة والشحن عبر توجيه الانفعالات والاستثمار في الغضب وتقسيم الشعب بين “نحن” و”هم” إضافة الى شيطنة الخصم في نفي واضح للتعدّد والتنوّع .
وتوضّح أنّ الشعبويّة بمختلف توجّهاتها لها خصائص أهمّها تهميش الهياكل الوسيطة كالأحزاب والمنظّمات والإعلام في استئثار واضح بمخاطبة الشعب ممّا يجعل من القائد الشعبوي “الرجل الشعب”.
الديمقراطية “المريضة”
يُرجّح العديد من الباحثين وفق ورقة صاغها المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات فرع تونس أنّ الشّعبويّة قد استمدّت مشروعيّتها من إخفاقات النّخب خصوصا في أدائها السّياسيّ الذي أنهك الدّيمقراطية لعقود طويلة مؤكدين انّ الشعبوية لا تجد حاضنة لها الا عندما تكون الديمقراطية “منهكة” .
ويشيرون الى أنّ تقلّص المشاركة السّياسيّة وتآكل القاعدة الشّعبيّة للأحزاب وعزوف المواطنين عن الانتخاب والانخراط في الشّأن العام ، في مناخات من السّخط على تنامي نفوذ الأجسام الوسيطة وسرقتها إرادة الشّعب إلى حد الاغتراب إضافة إلى الأزمات البنيويّة الحادّة التي رافقت الدّيمقراطيّة (اللّيبراليّة)، كلها ساهمت في تبني أفراد الشعب للخطاب الذي يشبههم ويعبّر عن رغبتهم وعواطفهم ممّا خلق للخطاب الشعبوي “حاضنة” وجعل من الشعبويّة البديل الكفيل بإنقاذ الشّعب من عيوب الدّيمقراطية وأخطارها وتمكينه من تحقيق إرادته وتجسيد سيادته.
وفي هذا الجانب يذهب الباحث التونسي أيمن البوغانمي خلال حضوره ندوة للمركز العربي للابحاث ودراسة السياسات إلى أنّ “الشعبوية تحرج الديمقراطية وتفقدها الوسائل التي تعتمدها.
أمّا الورقة التي صاغها المركزفي هذا الإطار فقد أشارت إلى انّ الخطاب الشّعبويّ قد تغذّى من أزمة المؤسّسات الدّيمقراطية المنتخبة وسوء اشتغالها، علاوة على هزال المكاسب الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي وعدت بها قوى التّغيير مضيفة أنّ الشعبوية استغلّت كذلك تعطّل الانتقال الدّيمقراطي لتُشدّد من هجوماتها علي هذا المسار .
بدوره يبين الصادق الحمّامي اثناء تقديمه نهاية الاسبوع الماضي لكتابه “الديمقراطية المشهدية’ خلال ورشة لمشروع دعم الاعلام في الدفاع عن الحريات والمساواة في تونس أنّ الشعبوية تهديد للديمقراطية لأنّ القادة الشعبويين يريدون إضفاء نوع من القداسة على خطابهم ويتحوّلون إلى قادة فوق الطبقة السياسية .
ويؤكّد على أنّ الشعبوية تتكيف مع السياقات التي تتشكل فيها لكنّها مرض تصاب به الديمقراطية وتزدهر عند فقدان المواطن لثقته في الأجسام الوسيطة وفي النخب التي يحمّلها كل شرور الديمقراطية (الفساد وعدم تحقيق مطالب الشعب) وهو ما عاشته تونس بعد عشريّة من الزمن من حكم حركة النهضة وحلفائها .
ويوضّح انّ الشعبوية السياسية تناهض الشكل التمثيلي للديمقراطية وتطالب بالديمقراطية المباشرة التي تسمح بأن يمارسها الشعب مباشرة دون وساطة وأنّ صعود شخصيات شعبوية (رئيسة الحزب الدستوري رئيس الجمهورية ) سببها أنّ الديمقراطية الاستثنائية التي تعيشها تونس قد أصبحت عليلة و أصابتها كل الأمراض تقريبًا التي أصابت الديمقراطية التاريخية أي الامتناع عن التصويت والعزوف عن الشأن السياسي إضافة لتراجع المشاركة السياسية والثقة في السياسيين.
مسؤولية الصحافة
ويرى الحمّامي أنّ بعض المقاربات تشير إلى أن الشعبوية تقوم أيضًا على مهاجمة الصحافة والميديا ونزع الشرعية عنهما والإدعاء أن الصحفيين متحالفين مع النخب السياسية موضّحا أنّ السياسي الشعبوي يستأثر بمخاطبة الشعب ولا يحبّ المنافسة ويسعى الى معاداة النخب عبر تحميلها لشرور الديمقراطية كما أنّه لا يعترف بالصحافة ويعمل على استثمار غضب الشعب عليها باعتبارها كانت اداة لبعض السياسيين “الميكيافيلين” .
ويوكّد في هذا الجانب على أنّ السياسي الميكيافيلي أسّس للصحافة المندمجة والشريكة وساهم في “ظهور الفاعل الهجين” الذي يظهر في البرامج الحوارية ويمزج بين الاتصال السياسي والصحافة ممّا أّدّى الى غضب الشعب عليه لاعتباره قد أفسد الصحافة وهو ما يعمل السياسي الشعبوي على استثماره لكسب عاطفة الجمهور.
في المقابل يقول الحمّامي إلى أنّ الصحافة هي التي ساهمت في ظهور الشعبويين وتطوّر الشعبوية لأنها لم تقم بدورها في الرقابة على السياسيين وكانت اقرب منها إلى ناقل للاتصال السياسي عوض ان تكون رقيبا على أعمالهم موضّحا أنّ المجتمع بحاجة إلى مؤسسات رقيبة على النخب على غرار مؤسسة الإعلام.
ويشير الى أنّ الصحافة التونسية تعاطت مع “الشعبوية” على أنها صفة يمكن أن تطلق على الخطاب الذي يسعى الى نيل رضاء الشعب وقبوله ويخدم مصالحه
بدورها أكّدت السعيدي أنّ الاعلام هو نفسه ساهم في صعود الشعبوية في تونس وغيرها عبر ترذيل السياسيين والبحث عن الإثارة والنقل الحرفي لكلّ ما يقال دون تناوله بالبحث والتفسير قائلة ان الاعلام اليوم مطالب بالتمسّك بخط العقل والعمل على تفسير الخطابات والبحث دون السقوط في النقل الحرفي .
ورغم الإجماع على أنّ الشّعبويّة في تونس استفادت من السياق الاجتماعي الذي خلفه الانتقال الديمقراطي وأزمة شرعية النخب التي أدارت السلطة منذ 2011 وفشلها في إدارة الأزمات فإنّ البعض يؤكّد على أنّ الشعبوية وفي سائر أنحاء العالم كان مصيرها الفشل بالنظر إلى أنّها تعيد نوعاً من الحماسة المؤقتة للحياة السياسية ولكنها سريعاً ما تنقلب على نفسها اذا ما لم تقدم رؤية اصلاحية وخطط عمل للخروج من المشاكل الحقيقية.