سابحا في بحر ذكريات رحلة سفره برّا نحو المملكة العربية السعودية لآداء مناسك الحج قبل أكثر من ثلاثة عقود، أطال “الحاج” فتحي النظر إلى ساعة حائطية تزين صالون منزله بأحد أحياء ولاية أريانة وكأنه يتذكر لحظة شرائها مع هدايا وتذكارات أخرى من مغازات مكة والمدينة المنورة سنة 1990.
يحرص “الحاج” فتحي (72 عاما) وبشكل دوري على العناية بتلك الساعة الحائطية التي تؤرخ لأيام رحلته “الروحية”، علاوة على صور فوتوغرافية للحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة كان اشتراها من هناك في رحلة الحج.
كثيرا ما يعيد الحاج السبعيني ترتيب مجموعة من أشرطة تسجيل (كاسيت) للقرآن الكريم جلبها معه في رحلة حجه التي عبر أثناءها برا أربع دول عربية، وهي تونس وليبيا ومصر والأردن، ليحط رحاله مع 8 أشخاص آخرين بالسعودية لآداء مناسك الحج سنة 1990، وهي آخر سنة سمح فيها للحجيج التونسيين بالسفر برّا لآداء هذه الفريضة.
قال “الحاج” فتحي، في لقاء مع صحفي وكالة تونس إفريقيا للأنباء (وات) في منزله، إن تلك الرحلة، التي امتدت ذهابا وإيابا على نحو 10 آلاف كيلومتر، “بدأت بيسر وانتهىت بيسر والحمد لله”، رغم حادثة تدافع الحجيج التي وقعت يوم 2 جويلية من تلك السنة في نفق “المعيصم” في مشعر منى.
وتابع وهو يلقي بنظره بعيدا في محاولة لاستجماع ذكرياته، بالقول إنه لم يعلم ورفاقه يومها بالحادثة وشعر أفراد عائلته في تونس بالحيرة والخوف، وحاولوا على مدى أيام الاتصال به هاتفيا للاطمئنان عليه هو ومن معه، لاسيما وأن الاتصالات الهاتفية كانت فقط عبر الهواتف الأرضية.
وأطلقت السلطات السعودية بعد حادثة التدافع تلك مشاريع توسعة كبيرة للحرم المكي ولبقية مناطق المشاعر استمرت لعدة سنوات ورفعت طاقة استيعاب الحجيج بعد أن كان العدد في تلك السنة في حدود 800 ألف حاج.
واصل “الحاج” فتحي حديثه حول تكاليف الرحلة قائلا ” كنّا تسعة أشخاص .. دفع كل واحد منا 500 دينار تونسي ” (1 دولار = 1.15 دينار تونسي) لتسديد تكلفة الوقود وحاجيات الشاحنة، وهو مبلغ ليس باليسير وإن كان أقل من تكلفة الحج عبر الطائرة”.
وقدر الأجر الصناعي المضمون في تونس سنة 1990 بحوالي 90 دينار.
يستمر المتحدث في سرد روايته، وقد انغمس في ذكريات شبابه، “كان ذلك قبل 34 عاما بالتحديد، وكنت أصغر الحجيج سنا، إذ أبلغ من العمر يومها 38 عاما .. اتفقنا على السفر برا لآداء مناسك الحج وتقدمنا إلى سفارة السعودية بتونس بطلب تأشيرة الحج لدخول المملكة برا عبر الأردن وحصلنا عليها بكل يسر، وفي ظرف أسبوع واحد أتممنا الإجراءات .. كما قمنا بالفحوصات الطبية والتلاقيح المستوجبة حينها”.
يتابع “الحاج” فتحي حديثه عن أطوار رحلته إلى البقاع المقدسة على متن شاحنة بضائع صغيرة، وكان وثقها بعدد من الصور، قائلا “كنا تسعة أشخاص، ثلاثة منا على المقاعد الأمامية، أما بقيتنا فجلسنا في الجزء الخلفي للشاحنة التي غصت بحشايا النوم وحقائب ومعدات للطبخ وكميات من لوازم الطعام من زيت ومعلبات ومياه..”.
ويضيف في هذا السياق ” كنا نشتري الحاجات الضرورية أثناء السفر، من لحوم وغلال، بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وكنا نعد الأكل أثناء فترات الاستراحة، ونسير ما بين 3 أو 4 ساعات نأخذ إثرها قسطا من الراحة للأكل والصلاة والنوم ولإراحة محرك الشاحنة”.
دامت رحلة الذهاب من تونس وصولا إلى المدينة المنورة 7 أيام، مروا خلالها، وفق المتحدث، عبر ليبيا وصولا إلى الحدود المصرية، ثم ساروا مباشرة إلى سيناء وانتقلوا الى المملكة الأردنية بحرا عبر عبّارة نقلتهم إلى ميناء العقبة الأردني قبل دخول الأراضي السعودية والتوجه مباشرة الى المدينة المنورة للزيارة والصلاة على الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم).
يذكر “الحاج” فتحي جيّدا إقامته ورفاقه في ساحة خارج المدينة المنورة كان يطلق عليها إسم “بطحاء الحجيج” ثم تنقلهم بعد ذلك بأيام نحو مكة برا عبر شاحنتهم وتوقفهم لاحقا في ميقات ذي الحليفة المسمى حاليا “أبيار علي”، وهو ميقات يبعد عن مكة حوالي 450 كلم.
وقال “الحاج” السبعيني إن الرسول حدد هذا الميقات لمن أراد الحج أو العمرة من المدينة، وفق ما ذكرته كتب السير والتاريخ، مشيرا إلى أنه لا يزال يحتفظ بلباس الإحرام الذي ارتداه يومها.
ويستطرد المتحدث في رواية أطوار الرحلة، التي امتدت لنحو 4 أسابيع كاملة اكتفى خلالها الحجاج التسعة بمكالمات هاتفية قليلة مع عائلاتهم، قائلا ” لم يكن لدينا مطوّف أو مرافق ديني، ولكن كان ضمن فريقنا صديق يدعى “عارف” سبق له زيارة المملكة وآداء المناسك في عدة مناسبات، كان هو رفيقنا في السفر ودليلنا “.
وأضاف أنه قضى مع رفاقه 4 أو 5 أيام في مكة في مكان منبسط كان مخصصا للحجيج، الذين كانوا يسمونهم حينها “حجيج الجوازات”، وكان بينهم رحاّلة جزائري الجنسية قدم قبلهم بفترة على متن دراجته الهوائية لآداء مناسك الحج ذلك العام وكان محل ترحاب وحديث جميع من التقوا به على طول مسار الرحلة، خصوصا في السعودية.
وبشأن رحلة عودة الحجاج التسعة، قال “الحاج” فتحي إنها دامت ثمانية أيام بسبب عطب أصاب الشاحنة في مصر اضطرهم إلى المبيت ليلة كاملة بالطريق الرابطة بين القاهرة والاسكندرية إلى حين إصلاح العطب الذي أصاب سيارتهم.
وأكد على أنهم لقوا كل الترحيب والمساعدة سواء بالطرقات أو في المعابر الحدودية التي مروا بها ذهابا وإيابا، وذلك أيام قليلة قبل تفجر الأوضاع في الخليج العربي بعد غزو القوات العراقية للكويت مطلع شهر أوت من تلك السنة.
وبلغ عدد الحجيج الذين توجهوا عام 1990 إلى المملكة العربية السعودية لآداء المناسك أكثر من 837 ألف حاج، أتى غالبيتهم على متن رحلات جوية من خارج المملكة.