مساهمة في التعريف بالهريسة التونسية والمعارف والمهارات والممارسات المطبخية والاجتماعية، المرتبطة بها والتي أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) على قائمة التراث العالمي غير المادي للإنسانية، صدر هذه الأيام كتاب جديد باللغة الفرنسية يحمل عنوان “الهريسة التونسية”.
هذا الكتاب الوارد في 70 صفحة من الحجم المتوسط، صدر في طبعة فنية أنيقة وتضمن صورا ذات جودة عالية، ومعلومات ثرية وعديد الأرقام التي تعكس أهمية هذا المنتوج. والكتاب هو الأول ضمن سلسلة إصدارات ستنشر تباعا وذلك بالتعاون بين وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، ومنشورات أليف ومنشورات التراث المغاربي والمتوسطي. فبعد الاحتفاء بالهريسة والتوثيق لهذا الجزء من التراث الغذائي المسجل ضمن التراث غير المادي لليونسكو، سيقع تخصيص الكتاب الثاني لفخار سجنان لتسليط الضوء على “المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجنان” التي تم إدراجها كذلك ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
ويجد القارئ في بداية هذا الكتاب لمحة عن ظهور تجارة “التوابل” منذ القرن الخامس عشر وكيفية انتقال زراعة الفلفل من بلد إلى آخر وعبورها البحار مع الرحالة من أمريكا الجنوبية حيث وجدت آثار هذه الزراعة قبل 8 الاف سنة، إلى أوروبا وآسيا (الهند تحديدا) قبل وصولها إلى افريقيا سنة 1498 والدور الكبير الذي لعبه البحار العربي أحمد ابن ماجد في هذا السياق.
كما يكشف هذا الإصدار مكونات/أجزاء حبة الفلفل وأنواعه عموما (يشوي- حار- موزوز- حلو)، والعائلة الفلاحية التي ينتمي إليها، وصولا إلى زراعة الفلفل في مختلف الربوع التونسية (مسكي- بقلوطي- شعباني- بلدي-معموري- مسرّح…) إذا يوجد 96 صنفا يدركها الفلاح التونسي جيدا، وكيف أن هذه الزراعة لا تقتصر على أراضي الوطن القبلي، رغم ارتباط الهريسة في الأذهان بولاية نابل، حيث تتوزع زراعات الفلفل على نحو 16 الف هكتار في عدة جهات (بنزرت- باجة- زغوان- جندوبة- الكاف- سليانة- القيروان المنستير والمهدية- سيدي بوزيد- قابس) ولكل منطقة منتوجها ومذاقه المختلف عن البقية. ووفق إحصائيات (2017-2023) تنتج تونس 31 ألف طن من الهريسة سنويا تصدر 40 بالمائة منها، ثلث هذه الصادرات نحو فرنسا.
ويقدم الكتاب تعريفا بالهريسة التونسية الحارة أو ما يطلق عليها بالهريسة “العربي” والتي هي خليط يتكون أساسا من الفلفل الأحمر الطازج والثوم والملح والتوابل مع إضافة زيت الزيتون، كما يقدم طرق تجفيف الفلفل وتعليقه على جدران البيوت، ومختلف استعمالاته : مجففا، أو كذلك بعد طبخه في الماء أو “تفويره” والفرق بين الطريقتين، حيث يستعرض عدة أكلات تقوم على الهريسة بمختلف أنواعها، سواء كبهارات أو كمقبلات، أو كطبق رئيسي من ذلك “عجة مايو” في نابل والمدن المجاورة لها، و”هروس” قابس، و”الهريسة النابلية” وتركيبة كل منها، وصولا إلى تصنيعها وتعليبها وإعدادها للتصدير من قبل عديد المصانع. وتم كذلك تخصيص جزء لتسليط الضوء على الفوائد الغذائية والصحية للهريسة واحتوائها على نسب عالية من الفيتامينات.
وللتذكير فإن الهريسة “تعتبر عنصر هوية لتراث الطهي الوطني، وعاملًا من عوامل التماسك الاجتماعي”، كما تعتبر “عنصرا موحدا لبلد بأكمله” وقد أثمرت المجهودات المشتركة بين عدة مؤسسات عمومية وخاصة انطلقت منذ 2019 تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية، ولعب فيها المعهد الوطني للتراث دورا هاما بالتعاون مع جمعية صيانة مدينة نابل، ومختلف مكونات المجتمع المدني، من أجل إعداد ملف حظي بالقبول وتم تسجيل هذا التراث غير المادي على قائمة التراث العالمي يوم 30 نوفمبر 2023 وهو ما يمثل اعترافا دوليا بالقيمة الرمزية والتاريخية للهريسة التونسية.