أيام قرطاج السينمائية 2025 “كولونيا” فيلم عن الرفق بالآباء حين يأتي متأخرا

تابع جمهور الفن السابع مساء أمس الاثنين بمسرح الأوبرا في مدينة الثقافة أحداث الفيلم المصري “كولونيا” ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في الدورة 36 من أيام قرطاج السينمائية. ويلقي المخرج محمد صيام في هذا العمل الروائي الطويل الأول، دائرة الضوء على العلاقات الأسرية عبر مواجهة قاسية بين أب وابنه حيث تتفجر ذكريات الماضي وخلافاتهما القديمة وتتكشف الصور المشوهة التي يحملها كل منهما عن الآخر.

وهذا الفيلم من بطولة أحمد مالك (الابن) وكامل الباشا (الأب) وتبدأ مشاهده الأولى بصورة قاتمة يظهر فيها الابن ملقى على شاطئ البحر في الوقت الذي يكفن فيه الأب العجوز استعدادا لدفنه بعد وفاته المفاجئة عقب يوم واحد من عودته إلى منزله إثر 6 أشهر قضاها في غيبوبة.

ويقدّم فيلم “كولونيا” على مدى 90 دقيقة قراءة سينمائية قاسية ونفسية حول هشاشة العلاقات الأسرية، واضعا المتفرج أمام ليلة واحدة تتحول إلى مرآة لسنوات طويلة من الصمت وسوء الفهم والتمزق النفسي. والمميز في هذا الفيلم أن المخرج لم يعتمد على الحدث بقدر ما راهن على المواجهة بين الأب وابنه وعلى الحوار المتفجر بينهما داخليا والذي يكشف تدريجيا عمق الانهيار الإنساني داخل أسرة فقدت القدرة على التواصل.

ومنذ مشاهده الأولى، يرسم الفيلم عالما أسريا مفككا لا يجمع أفراده سوى الروابط البيولوجية. فهذا الأب العائد من غيبوبة طويلة يدخل بيتا باردا خاليا من الألفة، وقد سبق دخوله المصعد المعطل الذي يبدو رمزا واضحا لانقطاع السبل بين الطوابق وبين القلوب. أما الحوار بين الأب وابنه فلم يكن يسير في خط تصاعدي طبيعي بقدر ما بدا يأخذ منحى الاشتباك حيث تتحول الألفاظ إلى أدوات اتهام بينهما ويصبح الماضي عبئا ثقيلا على كليهما يستحيل تجاوزه.

ولم يكن غياب التواصل منحصرا بين الأب وابنه الأصغر وإنما يسحب أيضا على العلاقة بين الشقيقين وهو ما يعني أن هذه الأسرة فقدت الحد الأدنى من الحوار واستبدلت معاني التفاهم والانسجام بالشكوك وانعدام الثقة. وهنا يبدو الصمت الذي خيم على جزء كبير من مشاهد الفيلم خيارا فنيا في صناعة القطيعة.

ويطرح الفيلم بأسلوب مباشر قضايا تتعلق بالرفق بالآباء خاصة حين يكون الماضي مثقلا بالأخطاء. فالأب في “كولونيا” لم يكن نموذجا مثاليا وإنما شخصية قاسية وفظة أحيانا ومنغلقة عاطفيا. ومع ذلك يضع الفيلم المتفرج أمام لحظة ضعف قصوى لأن الأب في هذه الصورة كان شيخا مريضا وعاجزا يعتمد كليا على ابنه الذي يحمل له كراهية دفينة.

وفي هذا التناقض، لا يدافع الفيلم عن الأب بقدر ما يدعو إلى إعادة النظر في معنى الرحمة والمسؤولية، ليعاد طرح السؤال من مقاربة أخرى هي هل يُختزل الأب في أخطائه فقط أم أن ضعفه الإنساني يفرض شكلا من أشكال التعاطف حتى وإن كان متأخرا؟ وقد كانت إجابة المخرج من خلال مشاهد حلاقة الابن لرأس الأب والخروج للأكل في مطعم مطل على البحر. وهي مشاهد لا تمحو الماضي الدفين لكنها فتحت نافذة أمل صغيرة وهي التذكير بأن الرفق بالآباء هو اعتراف بإنسانية الآخر قبل كل شيء.

ويقدم الفيلم صورة غير نمطية للشاب المدمن، فهذا الابن لا يظهر كمنحرف أخلاقيا بقدر ما يبدو منزويا وغير قادر على تحمل المسؤولية. وليست المخدرات هنا سبب الأزمة فقط إنما بدت كنتيجة طبيعية لفراغ داخلي ولصدمة لم تعالج منذ وفاة الأم. فكانت وسيلة هروب من واقع لا يحتمل المواجهة ومن أب يمثل بالنسبة إليه مصدر الألم الأول.

وقد أظهر الفيلم إدمان هذا الشاب على المخدرات في اللامبالاة والتقلب المزاجي والعجز عن اتخاذ موقف حاسم. ما جعله غير قادر على رعاية أبيه ولا حتى رعاية نفسه. كما يظهر التمزق الداخلي لهذا الابن بين الكراهية والإحساس بالذنب في آن واحد. فهو يحمل كراهية دفينة تجاه أبيه (ذي الرائحة العطنة، بعد الغيبوبة) حتى أنه يتمنى له الموت، لكنه في الوقت نفسه عاجز عن تجاهل الشعور بالذنب خصوصا حين يواجه ضعفه وعزلته. ونجده في المقابل رغم الانحراف وعقوقه تجاه أبيه، إلا انه يمنح المال الذي يكسبه من بيع المخدرات للمحتاجين من أبناء حيه وهنا المفارقة التي تجسد ما يعيشه من اضطراب وصراع.

وهذا الصراع الداخلي يظهر بوضوح في نظراته الشاردة وتوتره دائم وانفجاره غضبا سرعان ما يعقبها صمت طويل.

ومع انقشاع تقنية “الفلاش باك” يدرك الابن متأخرا أن الكراهية استنزفته بقدر ما استنزفت الأب وأن الهروب بالمخدرات لم يكن سوى تأجيل لمواجهة لا مفر منها. ولذلك فهو يدعو إلى البرّ بالآباء والمصالحة معهم واستغلال كل وقت سانح بقضائه برفقتهم قبل فوات الأوان.

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.