في الوقت الذي صنفت فيه منظمة الشفافية العالميّة (Transparency International) و هي منظمة مستقلّة تتمتّع بمصداقيّة عالية، تونس في مرتبة تعتبر مقبولة في مجال انتشار الفساد خاصّة إذا ما وقعت مقارنتها بتصنيفات بقيّة البلدان العربيّة، بيّنت الوقائع التي كشفتها الثورة المباركة مدى استفحال الفساد و انتشاره و تأثيره في الدورة الاقتصادية. فكيف يمكن قراءة هذا التقييم …
الفساد في تونس والمفارقة الصارخة |
بقلم السيد: كمال العيادي
في الوقت الذي صنفت فيه منظمة الشفافية العالميّة (Transparency International) و هي منظمة مستقلّة تتمتّع بمصداقيّة عالية، تونس في مرتبة تعتبر مقبولة في مجال انتشار الفساد خاصّة إذا ما وقعت مقارنتها بتصنيفات بقيّة البلدان العربيّة، بيّنت الوقائع التي كشفتها الثورة المباركة مدى استفحال الفساد و انتشاره و تأثيره في الدورة الاقتصادية. فكيف يمكن قراءة هذا التقييم المتباين مع الواقع؟ و ماهي الأسس التي يمكن أن تنبني عليها مقاربة شاملة و مستديمة لمكافحة الفساد و اجتثاث عروقه من أركان المجتمع؟ و هل أنّ المبادرة بإحداث اللجنة الوطنيّة للاستقصاء في مسائل الفساد و الرشوة كافية لتنقية المجتمع من هذه الآفة؟ صنّف تقرير منظمة الشفافيّة العالميّة الصادر منذ ثلاثة أشهر تونس حسب مؤشّر تمثل الشفافيّة في مرتبة 59 من جملة 180 دولة و نالت معدّل 4.3 في (Transparency Perception Index) سلّم مؤشّر الشفافيّة الذي يتراوح من صفر (غياب تام للشفافيّة و استفحال كامل للفساد) إلى 10 (أقصى مراتب الشفافيّة و انعدام الفساد). و يعتمد احتساب هذا المؤشّر على جملة من الاستبيانات التي تقوم بها المنظمة (la perception de la corruption) لدى فئات واسعة من المجتمع، و تسعى إلى قياس تمثّل واقع الفساد و مدى انتشاره (la perception) من قبل المستجوبين. و يختلف تقييم منظمة الشفافيّة الذي يعتمد على عنصر التمثل عن بقيّة التقييمات التي تقوم بها هيئات أخرى مثل البنك الدولي و منتدى دافوس و غيرها و التي تصدر دراسات في مجالات مختلفة و منها بالخصوص المجال الاقتصادي، حيث تستند هذه الدراسات إلى أرقام و معطيات و بيانات يتمّ تجميعها لدى المؤسسات الحكوميّة ثمّ يؤدّي تحليل هذه المعطيات إلى إنتاج مؤشرات بالاعتماد على جملة من الفرضيّات، يتمّ على أساسها ترتيب البلدان. و إذا ما قارنا مثل هذه الدراسات بالتقييمات التي تعتمد على عنصر التمثل، فإنّها تحتوي على نقاط قوّة حيث تستند إلى معطيات دقيقة و تحاليل معمّقة و لكنّها في نفس الوقت لها عدد من السلبيات من أهمّها مصداقيّة المعطيات التي تنطلق منها، خاصّة إذا ما علمنا و أنّ عدد من البلدان لا تتوفّر لديها هيئات مستقلّة لتجميع المعطيات، إضافة إلى نوعية الفرضيات التي يتمّ اعتمادها و التي يمكن أن تؤثّر على نتائج المؤشرات. في المقابل فإنّ التقييمات التي تعتمد على التمثل، و إن كانت لها أيضا نقاط ضعف أخرى، و هذا يمكن تناوله في مقال مستقلّ، تستند إلى رؤية المستجوبين و تصوّرهم الشخصي لحالة استشراء الفساد من خلال تجاربهم الشخصيّة، و هو ما يعطيها قدرا من المصداقيّة و لكن ينزع منها عنصر الدقّة و العمق الذي يتوفّر في الدراسات الأخرى سابقة الذكر. و بالرغم من كلّ هذا فإنّ مؤشّر منظمة الشفافيّة العالميّة هو أفضل ماهو موجود من حيث المصداقيّة، و الموضوعيّة العلميّة لتقييم واقع الفساد بمختلف البلدان و على هذا الأساس، و إلى حين يتوصّل المجتمع التونسي إلى استنباط آليات لتقييم و مراقبة واقع الفساد بالبلاد التونسيّة، فإنّ هذا المؤشّر يضلّ المرجع في معرفة هذا الواقع ببلادنا و مقارنتها ببقيّة البلدان. أين تقع تونس في مؤشّر الشفافيّة؟ و بالرجوع إلى مؤشّر الشفافيّة لسنة 2010 الذي صنّف تونس في مرتبة 59 محرزة بذلك تقدم بستّة نقاط بالمقارنة مع سنة 2009 (مرتبة 65)، و لكن يعتبر هذا الترتيب في نفس الوقت تراجعا إذا ما قارناه بسنوات العشرية الماضية حيث كانت تحتلّ تونس مراتب من 40 إلى 50، و بالتالي فإنّ مؤشر الشفافيّة العالميّة عكس تزايد الفساد ببلادنا على امتداد العشريّة الأخيرة. و لكن لأيّ مدى؟
و تبقى المفاجئة الكبرى في مؤشّر الشفافيّة لسنة 2010 الموقع الجيّد الذي احتلته تونس، على عكس ما كان متوقّعا، بالمقارنة مع بلدان الجوار حيث تمّ تصنيف المغرب في رتبة 85 من مجموع 180 دولة، و مصر 98 و الجزائر 105 بالرغم من أنّ هذه البلدان قطعت أشواطا في مكافحة الفساد من خلال إحداث هيئات حكوميّة مستقلّة للغرض و تسمح بتعاطي هذا الموضوع في الصحافة و إقامة نقاش حوله، و هو ما حدي بالنظام السابق إلى إصدار، و لأوّل مرّة، بلاغ رسمي عن وكالة تونس إفريقيا للأنباء يشيد بموقع تونس في سلّم الشفافيّة ضمن البلدان الإفريقيّة. و قد جاء ذلك البيان في صيغة مقتضبة جدّا و لم يتعرّض إلى الترتيب الجيّد الذي أحرزته معظم بلدان الخليج، مثل قطر، و الإمارات العربيّة المتحدة و الكويت. و كان واضحا و أنّ البيان في صيغته المقتضبة يتحاشى الدخول في موضوع الفساد والسماح بإقامة نقاش حوله و لو كان ذلك بصفة موضوعيّة من قبل أناس معتدلون حاولوا استغلال ذلك التصنيف كمدخل لإقامة نقاش هادئ حول الفساد وكسر الحضر حول هذا الموضوع على غرار بقية البلدان . إذا ما سرّ ذلك التقييم و هل كان بحق مجانبا للواقع الذي كان يتداوله الجميع في سرّهم عن استشراء الفساد في بعض الأوساط، و الذي كشفت فصوله و جزئياته الصحافة خلال الأسابيع الماضية، و من المنتظر أن تبوح بدقائقه العدالة في الأسابيع القادمة؟ في الواقع عندما نتحدّث عن انتشار الفساد ببلد ما فعادة ما يتمّ التفريق بين نوعين أو مستويين اثنين من الفساد.
-المستوى الأوّل و هو الفساد، أو الرشوة المستشرية في صفوف المجتمع، بحيث يصبح الفساد ظاهرة مجتمعيّة و فرديّة، و جزء لا يتجزأ من معاملات الأفراد في حياتهم اليوميّة، و تتوسّع هذه الظاهرة إلى أن تصبح في بعض الحالات أمرا مسكوتا عنه، و مسلّم به، بل يدخل أحيانا في خانة المعاملات حتّى و إن كانت الأخلاق و العقل و الدين يرفضها.(Les pratiques tolérées) المسموح بها و في هذا السياق فإنّ المجتمع التونسي، و بمفهوم الفساد الصغير، و بالرغم من استشراء هذه الظاهرة، فإنه يعتبر أفضل بكثير من المجتمعات بالدول الشقيقة، حيث لا يزال الفساد ظاهرة منبوذة نسبيا، و مرفوضة أخلاقيا، و هو ما أكّده تقييم منظمة الشفافية العالمية. -أمّا المستوى الثاني من الفساد فهو الفساد الكبير الذي ينحصر في الأوساط ذات النفوذ السياسي أو الاقتصادي أو الإداري التي تستغلّ نفوذها للحصول على امتيازات و منافع كبيرة مثل الصفقات العموميّة أو التفصي من دفع الأداءات. و يعتبر الفساد الكبير الأخطر على الإطلاق باعتبار و أنّه ينسف مبدأ المساواة أمام القانون و يقوّض أحد المبادئ الهامة التي يرتكز عليها الاقتصاد الليبرالي ألا و هي المنافسة النزيهة و بالتالي فإنّ الفساد الكبير يؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة الاقتصادية و يؤثّر سلبا على الخدمات التي يقدّمها القطاع الخاص إلى المواطن في إطار التعاقد مع المصالح العموميّة. و من أوجه خطر الفساد الكبير أنّه، إضافة إلى تأثيره في الدورة الاقتصادية فهو ظاهرة مقنعة و منظمة و يصعب كشفها، حيث أنّ المستفيدين من الفساد و المتسببين فيه و خلافا للفساد الصغير، عادة ما تكون لهم دراية بالقوانين و حنكة في التستّر على هذه الأفعال و لا يمكن التوقي من هذه الظاهرة إلاّ بالقوانين الصارمة، و حريّة الصحافة إضافة إلى وضع آليات أخرى سنتعرّض لها في مقال لاحق. و لسائل أن يتساءل ماهو موقع بلادنا في مجال الفساد الكبير و ماهو مدى استشراء هذه الظاهرة؟ لا يختلف اثنان في أنّ ظاهرة الفساد الكبير منتشرة ببلادنا و تتطلّب المعالجة الشاملة، لكن في المقابل لا بدّ من الإشارة و أنّ وضع تونس بعيدا كلّ البعد عن الوضع بمعظم الدول الإفريقيّة، و أفضل من العديد من البلدان العربيّة. فإذا نضرنا إلى الفساد في قطاع الصفقات العموميّة التي تمثّل عشرون بالمائة من الناتج المحلّي الإجمالي، و هي تعتبر مؤشر هام لمدى استشراء الفساد في المعاملات الاقتصادية و الإداريّة، لوجدنا و أنّ هذا القطاع تنظمه منظومة قانونيّة تسعى إلى الحدّ من الفساد بقدر من الصرامة و تحقيق العدالة أمام الطلبات العموميّة. كيف يمكن تصنيف الفساد الحاصل؟
و إذا سلّمنا و أنّ وضع بلادنا هو على هذا النحو في مجال الفساد بمستوييه الصغير و الكبير، فكيف يمكن أن نصنّف استشراء الفساد الذي كشفته الثورة و لماذا كان تأثيره على ترتيب تونس في تقييم منظمة الشفافية العالميّة محدودا؟ الأوّل: السكوت السلبي عن مظاهر الفساد و هنا يمكن تحميل المسؤوليّة بدرجة متفاوتة إلى فئتان اثنتان من المجتمع التونسي. الفئة الأولى و هي الأشخاص الذين تقع على عاتقهم مسؤوليّة غير مباشرة في الفساد و هم فئة المسؤولين الذين عاينوا عن قرب هذا الفساد من خلال مواقعهم دون أن يساهموا فيه. و الفئة الثانية و هي المجتمع ككلّ الذي لم يكن خافيا عنه هذا الفساد، و الذي سكت عنه باستثناء بعض الأفراد الذين كانت لهم الشجاعة في شجب تلك الظاهرة. المستوى الثاني والأخطر: و يتمثّل في المسؤولين الذين كان لهم ضلعا و دورا مباشرا في ذلك الفساد، حتّى و إن لم يتقاسموا "ثماره". فليس خفيا و أنّ عددا من المسؤولين تطوّعوا لخدمة مجموعات ذات نفوذ حتّى دون أن يطلب منهم ذلك، من خلال توجيه اهتمام هؤلاء إلى القطاعات التي يسهرون على تسييرها، و تعريفهم بخبايا و منافع تلك القطاعات و كيفيّة الاستثمار فيها و نصّبوا أنفسهم مستشارين اقتصاديين من أجل التقرّب من هؤلاء و الحصول على ودّهم، و هو ما يفسّر القدرة الفائقة التي تمكّنوا عبرها "الفاسدين" في اكتساح عديد القطاعات الاقتصادية و السيطرة على مفاصلها. من هنا تبرز لنا و أنّ ترتيب بلادنا في تصنيف الشفافيّة العالميّة تأثّر و لكن بصفة محدودة بهذا النوع الأخير من الفساد الذي هو أشبه بالسطو من الفساد في المفهوم المتداول، و بالتالي فإنّه يمكن أن نقول و أنّ منظّمة الشفافيّة العالميّة أنصفت الشعب التونسي و فرّقت بين مستوى الفساد العام بفصليه الصغير والكبير من جهة، وحالة النهب التي تعتبر وضعية استثنائية غريبة عن المجتمع من جهة أخرى و من المؤكد و أنّ ترتيب بلادنا لسنة 2011 سوف يحقق قفزة كبيرة، وليس من المستبعد أن ترتقي تونس إلى كوكبة البلدان الأوروبية في مجال مؤشّر الشفافيّة وهو ما سيعزز مناخ الاستثمار. و هذا سيضل مشروطا بمدى نجاح الحكومة في وضع الآليات الكفيلة لمكافحة الفساد على جميع المستويات تماشيا مع ما هو معمول به على المستوى الدولي حيث تعمل أغلب المؤسسات على إدراج منظومات التصرّف في النزاهة ضمن قواعد التسيير. المقال القادم : من أجل مقاربة شاملة لمكافحة الفساد
|
كمال العيادي |