ما الذي يفرّق بين المدن الأوروبية؟ لنقل مالذي لا يشترك فيما بينها؟ بين الشوارع والأزقة تتشابه البنايات والزخارف والأيقونات التي لا يدرك غير مطلع على الثقافات الأوروبية جذورها ومعانيها؟ ربما هي خطوط التماس الكثيرة التي …
من وحي زيارة تونسي إلى اسبانيا
ما الذي يفرّق بين المدن الأوروبية؟ لنقل مالذي لا يشترك فيما بينها؟ بين الشوارع والأزقة تتشابه البنايات والزخارف والأيقونات التي لا يدرك غير مطلع على الثقافات الأوروبية جذورها ومعانيها؟ ربما هي خطوط التماس الكثيرة التي شهدتها الحضارة الأوربية طيلة تاريخها والتي لم تستطع فواصل الحدود واختلاف اللغات والقيم أن تمحي لقاء الذاكرة الجماعية لشعوب تآلفت فيما بينها رغم غضينة الحروب والصراعات الدموية التي سالت فوق أرض القارة العجوز.
أوروبا المتهالكة التي تمكن مفكروها من استنباط نظريات الديمقراطية ومبادئ احترام حقوق الانسان، بعد أن عملت بحثا وتمحيصا في الأفكار والفلسفات منذ ظهور الكتابة سنة 3300 قبل الميلاد تقريبا، رأت أن وضع ترسانة من التشريعات، وسن سياسات اقتصاديةـ وتسخير قوافل جيشها وشرطتها للانطواء على نفسها ضد العالم "المتخلف" الذي يحيط بها من كل صوب، لا يكفي لضمان تقدمها. العرب الذي لا تفصلها سوى بضع ساعات قليلة طيران عن أوروبا لا يمكن أن يلجوا عصر الحداثة السياسية بعد أن فشلوا في امتحان تحقيق نهضتهم في أواسط القرن التاسع عشر.
فبعد سنوات الاستعمار التي لم تمح بعد من ماضي العرب، ما يزالوا هؤلاء يصارعون لهثا من أجل التقليص من السنوات الضوئية التي تفصلهم عن التقدم السياسي والعلمي والثقافي الذي تعيشه أوروبا في هذا العصر.
في حقيقة الأمر، لا بد الاقرار أن الاوروبين الذي تجاوزوا، بدرجة كبيرة حتى وإن ولم يتم الحسم فيها نهائيا، مأزق الهوية الذي ما يزال العرب غاطسون فيه للنخاع. مسألة أنستهم، على ما يبدو، أهمية تحقيق التنمية السياسية والاقلاع الحضاري رغم الموارد البشرية والاقتصادية المتوفرة لديهم.
والثابت، أن أوروبا الأنوار لم تر في في النور إلا الضوء الذي يقف عند حدودها الجنوبية، فحرمت من منافع وهجه جيرانها على شمال البحر الأبيض المتوسط.
في ساحة la Puerta del Sol في قلب العاصمة مدريد، اعتكف المئات من les Indignados بالقرب من وزارة الداخلية التي سيجت المنطقة المحيطة بها بأسلاك شائكة، ربما هي من ذات المصنع الذي أنتج نفس الأشلاك التي تفسد مشهد شارع الحبيب بوريقيبة بعاصمتنا.
يلفون القليل من الثياب ويرقدون في خيم في أحد أكثر الأماكن ازدحاما بالمترجلين في قلب العاصمة الاسبانية، احتجاجا على أخطاء الطبقة السياسية الاسبانية وقدحا في تمثيلية المؤسسات الدستورية التي عجز نظامها النيابي عن استيعاب جوهر الديمقراطية، ديمقراطيتهم طبعا المخالفة لديمقراطية رأس المال.
وبين تجمعات المحتجين يموج لغط الجدالات الحادة عن محتوى الديمقراطية "الجديدة" التي يدافعون من أجل تحقيقها، وبعضا من موسيقى "الريقي" و"الأكوستيك"، ولما لا قليلا من المخدارت وشيئا من الجنس لاستحضار كامل طقوس موجة الـ"هيبي" التي سادت سنوات الستينات.
شباب من مختلف الأعمار يحلمون بإسبانيا أخرى مغايرة لما تسعى الأحزاب السياسية لتحقيقه. اسبانيا تخدم المهمشين وينتفع بخيراتها "الغاضبون"، وليس أسهل في ذلك من توجيه شر البلية إلى المؤسسات المالية الدولية وإلى هياكل الاتحاد الاوروبي، فهي الخبز اليومي لأصحاب نظريات "العولمة البديلة".
زيارة مدريد لم تكن بغاية "تصدير" الثورة التونسية أو بهدف اسناد "الغاضبين" ودعمهم، وانما تتنزل في اطار التعرف على تجربة الانتقال الديمقراطي لاسبانيا ما بعد وفاة الدكتاتور فرانكو سنة 1975، والاطلاع على الخطوات التي قطعتها دولة كانت في ذلك الزمن، مشابهة، اقتصاديا وسياسيا، لتونس ما بعد الدكتاتور زين العابدين بن علي.
الوفد الذي ضم عدد من الاعلاميين الشبان، لم يكن يدرك للوهلة الأولى سبب سفره ! ربما لقلة التجربة، ولكن أيضا لكثير من السطحية في التعاطي مع الأمور. فعندما تجد نفسك أمام مسؤولين سياسيين رفيعي المستوى وشخصيات مؤثرة في الرأي العام المحلي، قد تقف مشدوها أمام الكم الهائل من الحكم والعبر، ولكن لا يمكن، بتاتا، إلا أن تستغل مثل هذه اللقاءات للتوصل إلى استنتاجات حول مواصفات"الانتقال الديمقراطي pour les nuls”.
بين مقار كبريات الصحف والتلفزيونات وعلى موائد المطاعم الفاخرة –التي أفرغت من فوقها قارورات الخمر انصياعا لرغبة احداهن التي قبلت كبائر "أهل الكفر" في معقر دارهم إلا موبقة الخمر.- في حضرة عدد من صناع القرار، كان الاسبان يكشفون تفاصيل جهدهم لتجذير الديمقراطية في بلدهم. وكان أغلبنا، يشكك في ديمقراطيتهم "الزائفة" التي لم تصل إلى المستوى الأعلى لديمقراطتنا "مؤجلة التنفيذ".
كان الجميع يلعن الأب الأول للاسبان الذي وقف إلى جانب نظام الطاغية بن علي، والكل يلهث من أجل ملئ الصفحة الموالية لطي الماضي بعبارات "الرغبة في التجاوز" و"السعي الدؤوب لتقديم جميع أشكال الدعم للدميقراطية الفتية التونسية" حتى لو أدى الأمر إلى صعود الاسلاميين إلى الحكم. وهو ما لم يكن ترضاه اسبانيا، والغرب اجمالا، في السابق. لكن من أجل التكفير عن الذنوب، فليتكفل السيد المسيح باضافة إثم إلى جانب الآثام البشرية قاطبة. ألم يقال أنموت المسيح كان فدية قدَّمها عيسىللشيطان ليحرر البشر الساقطين من سجنهم؟ للننسى خطابات الدعم لبن علي، ولنتقبل على مضض "شيطان الاسلاميين"، ولنركز على "المعاني السامية" لكون رئيس الوزراء الاسباني كأول سياسي أوروبي يوزر تونس بعد فرار بن علي. فالمهم هو تنظيف عرض اسبانيا "الحريات" التي وقفت نسماتها عند حدود مضيق جبل طارق.
أعضاء الوفد التونسي لم يع أن مسح أعراض اسبانيا، باشتراكييها ويمينييها، لن تكون على اثر مجرد جولة سياحية على أطلال مدينة قرطبة أو بالقرب من سواحل مدينة برشلونة، وانما الفائدة كل الفائدة هو استغلال هذه الزيارة للبحث في سيرورة عملية التشييد الديمقراطي قصد تفادي الأخطاء التي ارتكبت، في النموذج التونسي لمنوال"كيف تبني ديمقراطية في دولة يفتقر شعبها للممارسة الديمقراطية؟".
الغرب قد يضخ لنا مبلغ 125 مليار دولار للسنوات القادمة لدعم الاقتصاد التونسي بعد أن امتلات بنوكها بأرصد بن علي وحاشيته، لكم ماذا لو وضعت على ذمتنا ملكات العلوم وناصيات المعرفة لنكون سيدي قرارات أنفسنا؟ رفاعة رافع الطهطاوي لما زار باريس في الربع الأول من القرن التاسع عشر طرح السؤال: "كيف يأخذ العرب الابتكارات عن أوروبا، من دون أن يدفعوا ثمن ذلك تخليهم عن هويّتهم الثقافية والدينية؟"، أما بعض أعضاء الوفد التونسي،فسقطوا في هذا الامتحان، ربما لأن البعض منهم لم يكن يعي لماذا تواجد هناك أصلا.
سفيان الشورابي* *صحافي، مؤسس جمعية “الوعي السياسي ”