تجاوز ما قام ويقوم به النظام السوري من بطش وقتل متعمد ومنهجي للسكان العزل في سبيل ترويعهم وتكريس انتزاع حقوقهم، المدنية والسياسية، والعيش بامان، كل الحدود. وفي الأسبوع الأخير الذي رافق قدوم شهر رمضان، انتقل النظام السوري بسياسة البطش والترويع هذه إلى مستوى لم يسبق لنظام في العالم أن وصل إليه في العقود الطويلة السابقة. فبعد سلسلة طويلة من عمليات القتل والخطف …
في استباحة دماء السوريين من قبل حكامهم |
تجاوز ما قام ويقوم به النظام السوري من بطش وقتل متعمد ومنهجي للسكان العزل في سبيل ترويعهم وتكريس انتزاع حقوقهم، المدنية والسياسية، والعيش بامان، كل الحدود. وفي الأسبوع الأخير الذي رافق قدوم شهر رمضان، انتقل النظام السوري بسياسة البطش والترويع هذه إلى مستوى لم يسبق لنظام في العالم أن وصل إليه في العقود الطويلة السابقة. فبعد سلسلة طويلة من عمليات القتل والخطف والاعتقال الكيفي والعقوبات الجماعية التي طالت جميع المدن والبلدات والقرى السورية، بدأ منذ أول رمضان حملة مكثفة لسحق الانتفاضة الشعبية مهما كلفه ذلك من وسائل، أي باستخدام كل ما يتوفر له من وسائل العنف والوحشية المنظمة، الجمعية والفردية. هكذا انتشرت قوات الجيش على كامل التراب الوطني، وهي تقوم بفظائع لا توصف في حماة وحمص واللاذقية ودير الزور، من اقتحام للأحياء وعمليات دهم وتمشيط واغتيال وتنكيل بالسكان وتدمير للمساكن والأحياء، مع فرض الحصار الشامل، بما يعنيه من إغلاق المدن على الداخل والخارج ومنع وصول المؤن والأدوية إليها وقطع الماء والكهرباء عن منازلها لأيام، وبعض المدن والبلدات لايزال يعيش من حالة الحصار والتضييق والتنكيل هذه منذ أشهر عديدة، كما في درعا ومدن الجنوب وفي جسر الشغور والمعرة والشمال الغربي عموما، حتى أن أحدا لا يعرف بالضبط ماذا يجري في بعضها، ولا أساليب الترويع والتهديد التي تمارسها قوات الامن على السكان، بما في ذلك داخل المدينة نفسها. وتفيد المعلومات التي تنشرها التنسيقيات أو منظمات حقوق الإنسان بأن عدد الشهداء والجرحى الخطرين بالمئات وأن عدد النازحين الذين نجحوا بالنجاة بأنفسهم من المجزرة قبل إحكام قبضة قوات الأمن عليها قد تجاوز ربع السكان .
السؤال الأول الذي يطرح، بعد خمسة أشهر من القتل المنظم والترويع والتعذيب لشباب عزل إلا من صدروهم، اليوم، في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وبعد قرنين من ثورة الديمقراطية وترسخ أسس الحكومات الشعبية في معظم بقاع العالم، على السوريين أنفسهم قبل غيرهم وعلى غير السوريين أيضا، هو كيف يمكن أن تصدر مثل هذه الأفعال عن حاكمين محليين، وكيف يستطيع هؤلاء أن يبرروا استباحة دماء أبناء بلدهم ومواطنيهم وإخوانهم في الإنسانية، ويقبلوا بأن يتصرفوا كما لو كانوا قوة احتلال، وأن لا يترددوا في اختلاق جميع الأكاذيب، بما فيها الأكثر إثارة للسخرية، من أجل الاستمرار في عملية القتل المنظم والممنهج التي يمارسونها منذ شهور؟ من هنا كان لا بد للاستمرار في هذا النهج عند الحاكمين والمستعمرين من تطوير منطقين متوازيين يحكمان تفكيرهم ومشاعرهم معا تجاه محكوميهم. الأول منطق العنصرية الذي يقود إلى الاعتقاد العميق بان مجتمع المسيطرين من طينة مختلفة تماما عن مجتمع الخاضعين، وإلى نشوء علاقة بين الطرفين من نوع علاقة السيد بالعبد. وكما كان الحال في نموذج العبودية القديم، السيد هو بالتأكيد موطن الفضائل والقيم والأخلاق والمعبر عن هوية الإنسان المتحضر والراقي مهما فعل، أما العبد فهو موطن انعدام الأخلاق والعقل والأهلية. ولأن العبد لا شيء يذكر، فدمه أيضا مباح، وليس لقتله معنى أو أهمية، فلا يسأل السيد عن قتل عبده ولا يحاسب عليه، وهو حقه المطلق، ولا يحق لاحد أن يتدخل فيه . ورسخ خضوع المحكومين أو استسلامهم أمام القوة لعقود طويلة هذا الشعور بالتفوق وبالحق في السيادة والسيطرة، والنظر إلى الآخر الخاضع بوصفه من سقط المتاع، يحق للسيد التصرف به وبحياته وأسرته وأملاكه كما يشاء. وأصبح يبدو مع الزمن طبيعيا، أي صالحا سياسيا بوصفه أساس النظام والأمن والسلام، وأخلاقيا من حيث هو تعبير عن التفوق الطبيعي للسيد وحقه الذي لا يناقش في السيطرة واستخدام جميع وسائل العنف لإخضاع من ينظر إليهم على أنهم عديمي العقل والفضائل والأخلاق . وتكفلت الثقافة المرتبطة بالنظام في أن تحول هذا التفوق السياسي والأخلاقي المزعوم والمتوهم إلى واقع مادي مقبول ومستبطن لدى الحاكم والمحكوم على حد سواء بمقدار ما نجحت في إضفاء صفات التأخر والتخلف العقلي والجهل على الشعب، وفي حرمانه من أي فرصة للارتقاء في تفكيره وسلوكه إلى مستوى الشعور بالمسؤولية الجماعية أو التاريخية. ومن هنا لم ينفصل تأكيد مشروعية الاستخدام الدائم والمتزايد للعنف غير القانوني والتعسفي ضد الأفراد والمجتمع ككل، – مما شكل خصوصية النظام السوري خلال عقود، أكثر من احتكار السلطة التي يشاركه فيها كثير من النظم – عن تأكيد غياب الشعب مفهوما وواقعا، وبعده عن السياسة وتورط جميع أفراده في الفساد وافتقارهم لأي منظومة أخلاقية. وهو ما تسعى أيضا فيديوهات الجثث المقطعة والمشوهة التي تبثها أجهزة الإعلام السورية اليوم باعتبارها من أعمال المحتجين، إلى تأكيده وترسيخه في وعي الناس أنفسهم حتى يقتنعوا جميعا بأنهم منحطين وفاقدي الأهلية وليس لهم أمل في البقاء والسلام والأمان إلا بالالتحاق بأسرتهم الحاكمة، رمز القوة المادية والكفيلة أيضا بضمان صلاح الأخلاق العمومية. هنا نجد أصل الثقافة العنصرية التي طورتها النخبة السورية الحاكمة في العقود الماضية وحولتها إلى إيديولوجية مستبطنة، تبرر العزل والإقصاء واستسهال انتزاع الحقوق والبطش بمجتمع لم تعد ترى فيه سوى مهلوسين وجهلة وأميين وفاسدين وطائفيين وسلفيين . لكن العنصرية، بما تتضمنه من حط من هوية الشعب وتأكيد فساد أخلاقياته وافتراض تخلف قدراته العقلية وغياب تضامنه الوطني، ليست الوسيلة الوحيدة التي تستخدمها الثقافة القائمة لتبرير انتزاع حقوق الآخرين وامتهان كراماتهم وحرمانهم من الحرية، وفي ما بعد من الحق في الحياة. هناك ما هو أهم من ذلك في نظري. وهذا هو المنطق الثاني الذي طورته الطغمة السورية الحاكمة خلال العقود الطويلة الماضية. وهو منطق يتطابق أيضا مع ما طورته الصهيونية في فلسطين ويقوم على قلب المعادلة وتحويل الجلاد إلى ضحية والضحية إلى جلاد. فالفسلطينيون في نظر الإسرائيليين مجرمون بالولادة، وأطفالهم لا يقل إجرامهم عن راشديهم لأنهم يولدون وفي ذهنهم معاداة اليهود أو قتلهم. فهم مخربون مهما كان عمرهم وثقافتهم وانتماءهم ومواقفهم المعلنة. وقتلهم جميعا حلال بسبب أو من دون سبب. وإذا لم يحصل ذلك فلأسباب تكتيكية أو حسن أخلاق من الإسرائيليين لاغير. وهذا هو الحال بالنسبة للنظام السوري أيضا. فالسوريون يولدون أيضا مجرمين لأنهم فطروا على الطائفية والسلفية والتآمر مع الخارج ضد سلطة وحدت نفسها وهويتها مع العلمانية والتسامح الديني والوطنية. وهنا أيضا لا يتأثر هذا المنطق بأي عامل تاريخي أو اجتماعي، فالسوري مسلم وطائفي وسلفي حتى لو ظهر غير ذلك. وكل ما يقوم به من نقد او تردد في تأييد النظام وإعلان الولاء للسيد ، "سيد الوطن" كما يقولون، ليس إلا إفصاح موارب عن هذه الطائفية المقيتة اللاصقة فيه وعن السلفية والوهابية التي لا تفارقه ولا يمكن له أن يعيش خارجها. وبوصفه كذلك فهو الذي ينتهك، لمجرد وجوده، حقوق الإنسان ويهدد الأقليات في وجودها وعقيدتها، ولا وسيلة لاتقاء شره سوى وضعه في زجاجة وإغلاقها عليه. بذلك يضمن كل إنسان، الإنسان الحقيقي، حياته وحرياته ويعيش بامان. ومثل هذا المنطق هو ما لا تكف أجهزة الإعلام السورية التابعة للنظام عن تكراره وتكريسه في أذهان أنصارها وتابعيها . وربما كان أفضل مثال وتعبير عن شلل الوعي الأخلاقي أو تحييد الضمير ماكتبه بعض المثقفين الإسرائيليين عندما اتهموا أطفال الحجارة في أول انتفاضة فلسطينية بأنهم هم المجرمين الحقيقيين لأنهم ورطوا بانتفاضتهم جنود إسرائيل "الذين لا يقلون عنهم براءة"، في كسر عظامهم وأجبروهم، دفاعا عن أنفسهم، إلى إطلاق الرصاص عليهم. وعندما يطلق عنصر ميليشيات النظام السوري، المتماهي مع السيد كما يتماهى كلب الحراسة مع صاحبه، النار عشوائيا، وخلال أشهر خمسة متتالية، على المتظاهرين السلميين، فيقتل منهم العشرات وأحيانا المئات لمجرد خروجهم للمطالبة بالحرية، فهو لا يشعر بأي تأنيب ضمير. بل هو يشعر على الأغلب بالشعور ذاته الذي كان يشعر به الجندي والحاكم الإسرائيلي عندما كان يأمر بكسر عظام الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم. إنه يمقتهم أكثر لأنهم اضطروه إلى قتلهم، ووسخوا يديه وثيابه بدمائهم. ليست حياتهم هي الموضوع المهم وإنما راحة بشار، سيدهم، واستقرار حكمه. وعندما يطلق النار عليهم، فهو لا يطلقها على أخوة له في المواطنية أو الإنسانية وإنما على جرذان أو صراصير يعكرون صفو حياة السيد ولي نعمتهم. ولا يحق لأحد أن يدافع عن هؤلاء ولا أن يشجب التصدي للأذى المرتبط بمجرد وجودهم من دون أن يكون شريكا في المؤامرة على السيد ومعتديا على حقه المطلق في أن يتصرف بعبيد مزرعته كما يشاء. وليس من الصدفة أن كلمة صراصير وحثالة ومخربين وغيرها هي من التراث المشترك لدعاية الإسرائيليين التي واجهوا بها الفلسطينيين لإنكار شرعية قضيتهم ولأجهزة إعلام النظام السوري في مواجهتهم للمحتجين السلميين السوريين أيضا، وكان القذافي قد اختار كلمة الجرذان ليعبر عن الاحتقار ذاته الذي كان يكنه لمحتجي ليبيا وشعبها المطالب بالتغيير والحرية . النتيجة الأخطر لهذا المنطق الذي يقوم على تشريع العنصرية واحتقار الفئة الخاضعة للسيطرة والمستعبدة، أو المحولة بالفعل وليس بالمجاز إلى عبيد، والتي تفسر ما يقوم به السيد من قتل وتعذيب وتشريد، من دون أن يرف له جفن، أو يشعر بأنه يرتكب جريمة، أو يخرق القانون، أو يدوس على حقوق الآخرين الشرعية، هي تخدير الضمير، أو قتل الإحساس والشعور الأخلاقي تماما. فالشعور الأخلاقي نابع أساسا من الشعور بوحدة بني الإنسان وتضامنهم في ما بينهم كنوع. وتكريس هذا التضامن وتأكيد هذه الوحدة والتضحية التي ترتبط بإعادة إنتاجها، هما منبع الأخلاق. والحال أنه منذ اللحظة التي نخرج منها فئة أو جماعة من سلك الإنسانية، وننظر إليها على أنها حثالة من البشر، أو بشرا من طينة أخرى منحطة لا تستحق الاحترام ولا التضامن معها ولا حتى الحياة، لأنها كارثة على الإنسانية، لن يعد هناك ما يردعنا عن أن نتصرف معها خارج أي قانون أو عرف، وأن نعاملها معاملة الأوبئة والجراثيم الفتاكة والمؤذية. هكذا لن يثير حرمان الناس من حقوقهم ولا حتى قتلهم أي شعور بالذنب. إنه يشكل بالعكس من ذلك برهانا على القوة وتجسيدا لفعل السيادة وتأكيدا للهوية. وننتقل من معادلة نحن نقتل لأننا أسياد أو لنكون أسياد، أي يكون لنا الحق في السيطرة والتسيد والحكم، وهي معادلة الأسد الأب، إلى معادلة نحن أسياد إذن نحن نقتل، أي يحق لنا القتل. وهي معادلة الأسد الابن . ما يقوم به الشعب من مطالبة بالحرية والسيادة على نفسه ومصيره هو في نظر الطغمة الحاكمة عمل من أعمال التمرد والعنف وخلع السيد وتحدي إرادته لا يتفق مع القانون الفعلي الذي يقوم عليه النظام، أعني قانون السيادة والعبودية، وهو غير القانون المعلن بالتاكيد. ولا مجال للمهادنة في هذا المجال. المجرم والمتمرد والخارج على القانون هو الشعب وشباب الثورة من المحتجين. وجزاؤهم القتل من دون تفكير أو استئذان من حق إنساني طبيعي أو قانون. فهم المعتدون على حق السيد ومقامه. وهو عندما ينزل بهم العقاب لا يقوم إلا بممارسة حقه كسيد في وجه عبيد متمردين وخارجين على الطاعة التي هي جوهر العبودية وأساسها. في هذا الموضوع لا تطرح على القتلة أي مشكلة سياسية أو أخلاقية. ما يؤرقه هو كيف يمكن قلب الحقائق أمام الرأي العام الداخلي والخارجي غير المتأثر بالثورة. وهنا يأتي دور الكذب والخداع والمراوغة والغش كسياسة ومادة رئيسية في أجهزة الاعلام الرسمية، ودور اللعب على المخاوف من الحرب الأهلية ثم تمثيل مسرحية المؤامرة الخارجية والعصابات المسلحة المدسوسة التي يسعى من خلالها أن يلبس منطق العبودية الذي يقود أفعاله ثياب الشرعية السياسية المرتبطة بحق الدولة في احتكار العنف . في الطور الثاني من منطق السيادة، ننتقل خطوة ثانية في تبرير القتل المنظم. فهنا لا يتم القتل باسم الوصاية على شعب جاهل ولمصلحة هذا الشعب، ولا باسم حفظ النظام والقانون والأخلاق المهددة من قبل العوام والجهلة والفاسدين، وإنما باسم الحق في الوجود كأسياد، أي حماية للحق المكتسب بالقتل السابق. والحرية التي يطالب بها الشعب السوري لا تعني شيئا آخر بالفعل سوى تحطيم هذا "الحق"، في السيادة على الشعب. وهذا ما يفسر الحقد الذي تظهره ميليشيات النظام على لفظ الحرية نفسه عندما تنكل بالضحايا وتسخر من مطالبتهم بالحرية وتربط بين طلب الحرية والموت. وفي هذا الصراع بين سيد يريد الحفاظ على سيادته بالعنف، وشعب تحرر ويريد تاكيد سيادته بأي ثمن، لا توجد تسوية ممكنة. بالضرورة صراعنا هو صراع حتى الموت، ولن يتوقف قبل أن تحسم السيادة لأحد الطرفين. وهذا ما يفسر في الوقت نفسه الرفض المطلق للنظام لتقديم أي عرض سياسي مهما كان، وتصميم الشعب على الاستمرار في انتزاع حريته وسيادته أيضا مهما كانت التضحيات. وكما أن التاريخ الحديث لم يعرف نظاما استسلم لمنطق القتل والعنف كما يفعل النظام السوري القائم، مع غياب أي جهد سياسي، لم يعرف التاريخ الحديث شعبا استقبل الشهادة وقبل التضحية بالغالي والرخيص بحماس كما فعل ويفعل الشعب السوري اليوم. إن تكسير قيود العبودية وانتزاع الحرية هو في جوهره فعل بطولة ولا يمكن أن يتحقق من دونها. والشعب السوري ارتفع في صراعه ضد مستعبديه إلى مستوى البطولة من دون شك وهو يسطراليوم أكبر ملحمة في تاريخ الحرية في المنطقة العربية . بالتاكيد لا يلغي تحييد الضمير أو شلله إدراك القادة وأصحاب المصالح الكبرى والقرار أن ما يقومون به يخدم مصالحهم فحسب. وهم يعرفون أنهم مجرمين في سلوكهم هذا، ولذلك يسعون إلى لبس قناع الشرعية في مواجهة المؤامرة الخارجية. لكنهم وقد أصبحوا حقيقة من غير ضمير لا يعودوا يفكرون بمنطق الحق والقانون والشرعية والمسؤولية. ما يهمهم هو الإبقاء على سيادتهم ومصالحهم مهما كان الثمن. لكن الأمر يختلف عن ذلك بالنسبة لأتباعهم وأنصارهم الذين يتماهون معهم ومع نظامهم. فهؤلاء لا يمكنهم الربط بسهولة بين المصالح الكبرى الاقتصادية والسياسية التي تحرك النخبة الحاكمة التي تقودهم من جهة وآليات قتل الوعي التي تشكل جزأ من عملية خلق التماهي بين النخبة الحاكمة وقاعدتها السياسية، من جهة ثانية. لكن ليس من الممكن فهم السلوك غير الأخلاقي، بل الإجرامي للطرفين من دون وضع هذا السلوك، النظري والعملي، في سياق النظام نفسه وربطه ببنيته العميقة التي تظهر أن أصل العلاقة بين النخبة الحاكمة هنا والشعب هي علاقة العنف الخالي من أي مسايرة أو توسط سياسي، والتي لا يمكن أن تعيد انتاجها إلا بتكريس ثقافة الاستسلام الشامل وامتهان الذات وفقدان الكرامة مقابل ثقافة التفوق والعنصرية . إذن لم يولد هؤلاء الذين يقودوننا ويطلقون النار على أبنائنا من دون ذنب مرضى نفسانيين ومجرمين، لقد حولهم النظام القائم على العنف المطلق إلى ما هم عليه. وليس السلوك الإجرامي الذي يعممونه اليوم على جميع أنصارهم وعناصر ميليشياتهم جزءا من تراث السوريين، كلهم أو بعضهم، ولكنه التعبير الفاضح عن الطبيعة "الاجرامية" لنظام قام منذ البداية على مباديء الإقصاء والاحتكار وتبرير أي شكل من أشكال العنف المطلوب لمواصلتهما، نظام لم يكف منذ ولادته، وفي سبيل ضمان استمراره واستقراره، عن تطوير آليات امتهان كرامة الفرد الانسان وإلغاء حرياته والانتهاك المعمم لحقوقه وفي النهاية إلغاء هويته كإنسان من أجل السطو على حقوقه والانفراد في السيطرة على موارده . لكن السؤال الثاني والأهم في نظري هو كيف أمكن لغير هؤلاء الذين تبلد ضميرهم أو قتل، من حكومات عربية وأجنبية، ومن مواطنين أيضا، وبعضهم سوريين، أن ينظر إلى هذه الاستباحة السافرة لدماء السوريين ولتوالي قوافل الشهداء والجرحى والمفقودين، يوما بعد يوم وجمعة بعد جمعة، منذ أشهر خمسة متتالية، من دون أن يشعر بالذنب أو بتأنيب الضمير أو بشيء من المسؤولية؟
|
بقلم الدكتور برهان غليون |