كتب الصديق مختار الخلفاوي النص الذي ننشره في ما يلي بعنوان ‘يوم قال الطواغيت : إما نحن أو الطوفان” ويتعلق النص الذي كتبه الخلفاوي بكل رشاقة قلمه التي نعرفها بنتائج الانتخابات الأخيرة في تونس وما يستتبعها سياسيا اليوم في البلاد …
يوم قال الطواغيت: إمّا نحن وإمّا الطوفان ! |
كتب الصديق مختار الخلفاوي النص الذي ننشره في ما يلي بعنوان ‘يوم قال الطواغيت : إما نحن أو الطوفان" ويتعلق النص الذي كتبه الخلفاوي بكل رشاقة قلمه التي نعرفها بنتائج الانتخابات الأخيرة في تونس وما يستتبعها سياسيا اليوم في البلاد وفي ما يلي نص المقال: " مطرٌ غزير ينهمر منذ فجر الأحد على تونس، فتسيل له الأنهار والأودية والسواقي، وتغتسل به الحيطان والأشجار والطرق المتربة. مطرٌ تنشج له المزاريب، ويسّاقط ليتجمّع سيولا تتدافع على الإسفلت في شوارع مهجورة لمدينة ذاهلة تغرق في ضباب من أسى شفيف. أيَّ حزنٍ يبعث المطر ! وهل صدق الطواغيت حين حذّرونا وهم يولّون الأدبار، وكان ذلك منهم آخر الهدايا المسمومة: إمّا نحن وإمّا الطوفان ! ذلك ما يمكن أن يقال، على كلّ حال، بعد أيّام على فضّ أختام صناديق الانتخابات في تونس. وبقطع النظر عن أنّ الذين صوّتوا يوم 23 أكتوبر هم نصف عدد الناخبين المفترضين، وأنّ هناك محاولة لاختصار قيمة عجيبة هي الديمقراطيّة في صندوق انتخاب بدل أن تكون ثقافة، وفي حسابات ربح وخسارة بدل أن تكون عهدا إلزاميّا بأنّ السلطة ينبغي أن تصير، بعد اليوم، مداولةً، فذلك لا يمنع من الإقرار: بعين القناعة والزهد، لم ينصفْ منْ قال إنّ فكرة التقدّم قد خسرت في انتخابات المجلس الوطنيّ التأسيسيّ. فمقارنة عجلى بين انتخابات المجلس القومي التأسيسيّ سنة 1956 وبين انتخابات المجلس الوطنيّ لسنة 2011 تكشف عن أنّ معركة الحداثة الطويلة تشقّ طريقها في الأذهان والهياكل والنصوص. في أوّل انتخابات للمجلس القومي التأسيسيّ، قبل أكثر من نصف قرن، اُستُثْنيت النساء من المشاركة مرشّحات وناخبات، واستُثْني من كان في عداد "الأمّيّين"، وحصِر الترشّح في الذكور الذين تجاوزا الثلاثين، ولم يُسمح بالانتخاب إلا لمن بلغ الحادية والعشرين. وفوق ذلك، كانت "منافسة" باهتة أقصي اليوسفيّون عنها، وضيّق على الشيوعيّين والدستوريّين القدامى فيها، وتقدّمت إلى الانتخابات كتلة "صمّاء" عرفت بكتلة الجبهة القومية، وضمّت الحزب الدستوريّ الجديد واتّحاد الشغل واتحاد المزارعين، وفازت بالمقاعد جميعا (108 مقعدا ). فيما، اليوم، ترشّحت المرأة التونسية مناصفة وفازت العشرات منهنّ بمقاعد في المجلس، وتقدّم الشعب بنسائه ورجاله وأجياله إلى الصناديق، وكان شباب الثامنة عشرة في مقدّمة الصفوف. أليس في ذلك انتصار للحداثة التونسيّة؟ أوليس نصرا لتونس حين صارت الدولة المدنية والقبول بالديمقراطيّة والتداول السلميّ على السلطة القاعدة المشتركة التي يصرّح بها الجميع، سواء من كانت مرجعيته يسارية أو دينيّة أو ليبرالية أو قوميّة؟ وقد وصل إلى صدارة الأصوات فضلا عن "النهضة" من يحمل فكرة التقدّم ويؤمن بمشروع مجتمعيّ حداثيّ أعني "المؤتمر من أجل الجمهوريّة" و"التكتّل الديمقراطي" وسائر الكتل الصغيرة.
أوليس انتصارا للحداثة التونسيّة أن كانت تونس مختبرا ممكنا لخوض أوّل تجربة ديمقراطيّة في العالم العربيّ من خلال إجراء أوّل
بحساب الربح والخسارة، أنظر إلى الشطر الفارغ من الكأس، أيضا. ورغم أن مسألة العدد لا تعني، لديّ، شيئا جوهريّا في محصّلة التحليل، فلا بأس، أيضا، أنْ أحاول فهم اتّجاهات التصويت للقائمات المتصدّرة لنتائج الانتخابات. ففي تصويتهم لحركة النهضة أراد خُمُس التونسيّين أو ثلث الجسم الانتخابي، على وجه الحصر والتحديد، أن يصفّي الحساب مع تركة ثقيلة لأنظمة الاستبداد السياسيّ التي سيطرت على البلاد طيلة عقود. صوّتوا ضدّ آلة دعائيّة كانت تلوك صباح مساء خطبا ممجوجة عن التنمية المستدامة وحقوق المرأة والاستثمار في العقول، وعن التأهيل الشامل والحداثة "المشوّهة". صوّتوا ضدّ التكرار والملل والتراخي، وضد خزعبلات كانت تجري تحت أبصار التونسيّين وأسماعهم، وترّهات قتلت ملكة الإبداع وأذهبت الحسّ النقديّ فيهم. صوّتوا ضدّ السخف والرقاعة والوقاحة والرداءة واحتلال المناصب بالولاءات و"الأكتاف". صوّتوا ضدّ النهب والنهب المنظّم. صوّت هؤلاء لمن يرون فيهم "الضحايا الوحيدين" للديكتاتوريّة، للّذين أنفقوا زهرات العمر في الزنازين والسجون والمنافي، ونكّل بهم وبأسرهم وأهاليهم وبأصولهم وأعقابهم. صوّتوا لهم على اعتبار أنّهم "المؤهّلون" أكثر من غيرهم لإحداث القطيعة المرجوّة، والتقدّم في محاسبة الفساد ومواجهة الإفساد. صوّتوا لـ"النهضة" لا حبّا وكرامة وقناعة ببرامجها التي جمعتها بعدد أيّام السنة، ولكنْ نكايةً بأجهزة خطابيّة ومناويل تنموية جرّبتها الدولة الوطنيّة منذ خمسين عاما، وكانت وبالا على الناس، حين وسّعت، شكليّا، قاعدة التحديث والتعليم والصحّة، وضيّقت، بالفعل، قاعدة العدالة الاجتماعيّة والمشاركة في الشأن العامّ. ويوم الامتحان، نفروا إلى الصناديق جماعةً وجاءها منافسوهم فرادى تفاريق ! بجناح مهيض وبال كسيف، أرقب، واثقا، ربيعا عربيّا يراد له أن يكون خريف الشعوب، بتحويله عن مساره الصحيح، وبإقامة أحلاف تسوّق أنساقا قديمة في طلاء ليبراليّ مبهر. واسألْ عن الدور القطريّ الإخواني الوهابيّ المسنود أمريكيّا لتعرف المستفيد. بعين الحكمة والتدبّر، تهدأ الأمطار، ويطلع النهار الجديد على سماء صاحية وأرض غسلتها السيول الجارفة. لا بدّ للمنهزم – في ميزان الربح والخسارة – من نقد ذاتي ومن مراجعات واستدراكات، كما على المنتصر إن كان لا بدّ من منتصر من تحمّل أعباء الانتصار ومسؤوليّاته الوطنيّة في إنجاح الانتقال نحو الديمقراطيّة. تشخيص دقيق يهَبه الشعب على الساسة وكلّ من رام المشاركة في الشأن العامّ أخذه بعين الاعتبار. أمّا المثقفون الذين يتحمّلون أعباء التنوير فديدنهم، دائما، أنّ الحقّ لا يصير حقّا بكثرة معتقديه، ولا يستحيل باطلا بقلّة منتحليه !"
|
|