ماذا يحدث في تونس الآن؟ كيف تؤول الأمور إلى هذا المنحدر الخطير في ظلّ ما نلاحظه من تراخ هنا وصمت هناك واهتبال للفرص هنالك…
تلك، إذن، قسمة ضيزى ! |
ماذا يحدث في تونس الآن؟ كيف تؤول الأمور إلى هذا المنحدر الخطير في ظلّ ما نلاحظه من تراخ هنا وصمت هناك واهتبال للفرص هنالك؟ في مثل هذا الوقت، وأنا أخطّ هذه السطور ما تزال أصوات الإدانة والاستنكار تصل من "كلية الآداب بمنوبة" حيث يمارس فتية خرجوا من كهوفهم هوايتهم المفضّلة: حرف الأنظار عن استحقاقات المرحلة، وخلط الأوراق من جديد، والعودة بنا إلى المربّعات الأولى .. "آسفة. لقد أمسكنا رئيسكم المخلوع في ضيافتنا، وأرسلنا إليكم طيورنا الأبابيل لتذعنوا إلى الدعوة الوهابيّة التي رفضتموها منذ قرنيْن!". قالت لي صديقة "جدّاوية" بشيء من الرثاء والحسرة والدعابة. وحُقّ لها القول، ألم تشرع بعض الفلول السلفية في تطبيق خطّتها الجهنّمية بإدخال البلد إلى نفق مظلم من التضييق على الحرّيات الفرديّة والعامّة، والدفع، عبر سيوف الحِسبة المشرعة، إلى نوع من الرقابة الذاتية بدأنا نلحظه في شوارع تونس . لقد بدؤوا خطّتهم مبكّرا جدا، بُعيد الثورة "المباركة" التي أخرجتهم من كهوفهم التي أووا إليها منذ دهر ولم نسمع لهم صوتا ولا نفسا، غير أنّهم مرّوا إلى السرعة القياسيّة بُعيد الانتخابات التي أفرزت الانتصار لحركة "النهضة". وصارت لهم صولات وجولات، والجليّ أنّهم، دائما، يختارون أهدافهم بعناية، من كلّيات الآداب في سوسة والقيروان إلى معاهد الفنون الجميلة إلى التطاول على مدرّسي المسرح والفنون التشكيليّة إلى تكفير بعض مدرّسي العربيّة، إلى طرد مديرة إذاعة الزيتونة من قبل هيئة مزعومة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصولا إلى ما شرعوا فيه أمس الاثنين من هجوم منظّم على "كلّية الآداب بمنوبة" ومضايقة الطلاّب والمدرّسين، وتعطيل سير الامتحانات والدروس، وصولا إلى احتجاز العميد في مكتبه والاعتصام في حرم الجامعة ليلا مهدّدين بأنّهم لن يفكّوا اعتصامهم إلاّ متى تحققت مطالبهم، ومنها حقّ المنقّبات في إجراء الامتحانات، وتوفير إحدى القاعات لتحويلها إلى مصلّى، مع العمل على الفصل بين الإناث والذكور ! يحدث كلّ هذا في ظلّ تراخ أمنيّ مريب، وصَمَم سياسيّ يدعو إلى الشكّ، وفي ظلّ منطق ثأري يدخل إلى المشهد السياسيّ، هو، أيضا، منطق استئثار و"استرداد" يعلن صراحة ودون مواربة أنّنا بصدد "فاتحين" يستمرئون ما يحدث متذرّعين بحجة الغلبة والأصوات الانتخابية، وفي ظلّ غياب للروح الوفاقية ظهرت منذ الأيّام الأولى لأشغال المجلس الوطني التأسيسيّ، فضلا عن سقف منخفض جدّا لاستحقاقات الانتقال الديمقراطيّ ظهر في الاتّجاه لطلب النصح والتنسيق مع جهات ليست بحال في مقام يؤهّلها لمناصحتنا ولا لـ"هدايتنا"، كقطر والجزائر والسودان، وفي الاعتساف بطرح محاور من أجل فرضها عنوة ودون الاحتكام إلى النقاش العموميّ تحت قبة المجلس الوطنيّ التأسيسي وخارجه كالدعوة إلى التراجع عن بعض فصول مجلّة الأحوال الشخصيّة ( فصل التبنّي، وفصل التعدّد)، في الوقت الذي تتوقّف فيه عجلة الإنتاج بفعل الاعتصامات والإضرابات، وتُحرَق فيه ممتلكات الشعب في هذه المدينة المحرومة أو تلك، وتُغلِق فيه المصانع أبوابها، ويرحل فيه المستثمرون خارج البلاد .
لمؤشّرات على ذهنية الغنائم هذه ما لوحظ من استئثار "حركة النهضة" بأهمّ الحقائب الحكوميّة، ومن طرح مشروع للتنظيم الوقتي للسلطات هو بمثابة مشروع الأمر الواقع يجمع كافة السلطات بين يدي الحزب الفائز بأغلبيّة المقاعد، ولا يكون فيه لشريكيْه في الحكم ولا للمجلس التأسيسيّ إلاّ دور صوريّ . كنت قد هممتُ بالردّ على بعض الأطراف التي خسرت في امتحان الصناديق، ومضت في الأسلوب الغوغائي المعاند ذاته، وهو الأسلوب الذي جنى على برامجهم ومكّن لخصومهم لولا أنّ أصداء ما يجري، هذه الأيّام، لم تترك مجالا للإقرار بأنّها بداية تبشّر بأي خير. إنّنا أمام تغوّل لا أجد مصداقا عليه أفضل من قوله تعالى: ألكم الذكر وله الأنثى، تلك، إذا، قسمة ضيزى ! قبل أكثر من نصف قرن، حين كان التونسيّون يقارعون الاستعمار ويبنون دولة الاستقلال ويؤسّسون لتجربة سياسيّة جديدة مع المجلس القوميّ التأسيسيّ سنة 1956، كان السعوديون – باعترافهم – يحتاجون إلى رخصة تسلمها "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لاستعمال الدرّاجة التي كانت تعتبر، آنذاك، اختراعا شيطانيا. كان يجب على الشخص، قبل أن يستعمل الدراجة، أن يوفّر شروطا صارمة من بينها الالتزام أمام الموثقين والشهود ورئيس القبيلة بعدم استعمال دراجته إلا في حالة " الضرورة " وللتنقل بين بيته ومكان عمله لا غير . قبل حوالي نصف قرن، اضطرّت الشرطة الدينية السعودية إلى السماح، بشروط، باستعمال الدراجة أو "حمار إبليس"، ومنذ ذلك التاريخ تحفظ لها الأيّام حوادث ووقائع وحروبا وغزوات تعتدي فيها على الحرّيّات الفرديّة والعامّة، وترعب النّاس، وتطاردهم، وتفرض العبادات بالعصا، وتبثّ كره الحياة وحبّ الموت والبشاعة والقسوة . في العام الحادي عشر بعد الألفيّة الثانية للميلاد، سيذكر التاريخ أنّ التونسيّين قد صار لهم، أسوةً بالشعوب الورعة، هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر !
|
|