لعلّ من الهيئات الّتي أجمع جلُّ التّونسيّين بمختلف ميولاتهم وانتماءاتهم على أنّها كانت الضّمانة الكبرى لتتويج المسار الانتقاليّ التّوافّقي ما بعد 14 جانفي 2011 …
التَّشَاغُل عن مصير الهيئة المستقلّة للانتخابات تنكُّرٌ لتونس الدّيمقراطيّة
لعلّ من الهيئات الّتي أجمع جلُّ التّونسيّين بمختلف ميولاتهم وانتماءاتهم على أنّها كانت الضّمانة الكبرى لتتويج المسار الانتقاليّ التّوافّقي ما بعد 14 جانفي 2011 بإقامة انتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة هي الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات.هذه الهيئة الّتي عدَّها – وما يزال – المراقبون في الدّاخل والخارج مكسبا ومثالا يُحتذَى لِما بذلته من جهود جبّارة ولما قدّمته من خدمة تاريخيّة لتونس، هي اليوم – وكما كانت قبل ذلك – ضمانتنا الفعليّة للنّجاح في قادم المحطّات الانتخابيّة باعتبارها محطّات ستتوّج كلَّ الخطوات والمراحل الّتي نحن بصدد قطعها في المرحلة الانتقاليّة الثّانيّة.
ولذلك فإنّ الحرص على تثبيت أركان هذا الهيكل أو إعادة ضَخِّ الدّماء فيه هو الدّليل على الحرص علىتتويج المسار الانتقاليّ، وهو كذلك الباني للثّقة في أنّ ما نحن بصدد بنائه إنّما هو المؤسّسات الدّيمقراطيّة وليس المنافذ المؤدّية إلى دهاليز الاستبداد.
يفترض المرسوم الّذي دُعي بموجبه النّاخبون التّونسيّون إلى الاقتراع يوم 23 أكتوبر 2011 أنّ المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ بالحكومة المنبثقة عنه سيفقِد الشّرعيّة "القانونيّة" في خريف هذه السّنة، ويقدّر الخبراء أنّ فترة التّهيئة لانتخاباتٍ لن تقلّ عن ثمانية أشهر، وهذا يعني أنّه لا محيد للمجلس الوطنيّ التّأسيسيّ من أن يبُتّ في أمر القانون الانتخابيّ ومن أن يفصل القول في الهيئة الّتي ستشرف على هذه الانتخابات سواء بتجديد الثّقة في فريق السّيد كمال الجندوبي وتمكين هيئته من مواصلة عملها باستكمال تسجيل النّاخبين وترميم خارطة مراكز ومكاتب الاقتراع بالاستفادة من تجربة أكتوبر 2011، أو بتشكيل هيئة جديدة تتحدّد مواصفاتها وأفرادها ونظام عملها من قبل المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ بما يعنيه ذلك من تركيز إدارة انتخابيّة وإصدار أمر ترتيبيّ يخوّل للهيئة الشّروع في الاستعداد للانتخابات.
بين هذين الخيارين، واللّذين لا خيار دونهما إلاّ إن ارْتَأَى البعضُ زرعَ الفتنة والتّبشيرَ بالاستبداد، يميل مُحكِّمُ عين العقل إلى الخيار الأوّل، أي تعهّد الهيئة السّابقة بالثّقة والدّعم اللّازمين وبالإطار القانونيّ المفعّل لآليّاتها الّتي تعطّلت.ذلك لما أثبتته من جدارة ولما حظيت به من ثقة ولما اكتسبته من خبرة إضافة إلى كونها قطعت خطوات كبيرة ستجعلنا نكسب الكثير من الوقت والجهد. فلهذا كان من المفترض أن تبادر حكومة السّيد حمّادي الجبالي إلى اقتناص الفرصة واستثمار هذا الرّصيد ومن ثمّة زرع الثّقة السّياسيّة الّتي ستنعكس على المشهد التّونسيّ أمنا وسِلما واستقرارا، غير أنّ ما تواردته الأخبارُ عل ألسنة رموز هذه الهيئة هو تَشَاغُل الحكومة عنها وتململها في التّفاعل مع رسائلهم وتوصياتهم ومقترحاتهم، بل ولا مبالاتها بهذا الهيكل وكأنّها قد نفضت يديها دون أن تحدّد البديل كما ورَد بقانون التّنظيم المؤقّت للسّلط العموميّة والّذي نصّ على وضع قانون لهيئة مستقلّة دائمة للانتخابات.
إنّ الانطباع الأوّل الّذي يخرج به المتابع لما يحدث من تبديد متعمَّد للهيئة الّتي نظّمت انتخابات أكتوبر 2011 هو أنّ حكومة "التّرويكا" – ولعلّه بتواطؤ مع نوّاب المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ الّذين لازموا إلى حدّ السّاعة الصّمتَ في ما يخصّ هذا الأمر – قد سحبت ثقتها من فريق السّيد كمال الجندوبي، وهي لذلك تترصَّد الفرصةَ السّانحة لاستحداث هيكلٍ بديلٍ لعلّ المُسترِيب في حيثيّات ما وقَع – وما سيقَع – سيراه مقدودا على مقاس الحكّام الجدد فنعود بذلك إلى انتهاج سلوك "حليمة"الّذي دأب عليه النّظام السّابق حين كان يقدّ التّفاصيل الانتخابيّة فلا تصبّ نتائجُها بمكائده إلاّ حيث يشاء ويقدّر.
ونحن نرى من الواجب أن نلفت الانتباه إلى أنّ سحب الثّقة من الهيئة الّتي ثبَتت نزاهتُها وأكَّد التّجريبُ استقلاليّتها سيمثّل التفافا على تلك الاستقلاليّة، وذلك سيكون الحجّة الأولى المثبتة لعدم استقلاليّة أيّ هيئة جديدة، إذْ ما الدّاعي إلى ذلك إن لم يكن الإفلات من سلاح استقلاليّة الهيئة السّابقة؟
إنّ النّاخبين الّذين منحوا الثّقة في نوّاب المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ وما تفرَّع عنه من حكومة لم يسحبوا بعد ثقتهم تلك.غير أنّ إحالة الهيئة الّتي ضمنت للتّونسيّين انتخابات مثاليّة على التّقاعد دون مبرّرات مقنعة وتبديد جهودها والعبث بالموارد الّتي اُعتُمِدت لها عبَثا بالمال العامّ قد يجعل النّاخب خاصّة والمواطن عامّة يعيد حساباته، وإعادة الحسابات لها أشكال وألوان لعلّ الحكومة المؤقّتة ذاقت بعضها في الفترة القصيرة الّتي قضّتها حتّى السّاعة في تسيير دواليب الدّولة.