لحنابلة الجدد… في تونس المحروسة

كان لا بدّ أن يضرب غربان البين من المحتسبين الجدد حتّى نوقن بحجم المخاطر التي يقود إليها غياب الحوار والمسؤوليّة لدى البعض ممّن يتعامل مع الأحداث بمنطق الغنيمة لا غير. وكانت «غزوة إفريقيّة» على قاعة «أفريكارت» التي شارك فيها لفيف من الغوغاء …



لحنابلة الجدد… في تونس المحروسة

 

كان لا بدّ أن يضرب غربان البين من المحتسبين الجدد حتّى نوقن بحجم المخاطر التي يقود إليها غياب الحوار والمسؤوليّة لدى البعض ممّن يتعامل مع الأحداث بمنطق الغنيمة لا غير. وكانت «غزوة إفريقيّة» على قاعة «أفريكارت» التي شارك فيها لفيف من الغوغاء السلفيّين تتمّ على بعد أقلّ من مائة متر من وزارة الداخليّة الغرّاء، وتحت سمع أعوانها وبصرهم على وجه اليقين.

هذه الحادثة الخطيرة تأتي في الوقت المناسب لتنبّه التونسيّين إلى الهاوية التي تتهدّدهم إن هم لم يتحمّلوا مسؤوليّة المسار الانتقاليّ الذي أعقب الثورة التونسيّة، وذلك بتدبير اختلافاتهم بالطرق المناسبة بعيدا عن تهييج الجمهور، وتخوين البعض ، وتكفير البعض الآخر.

ودون تحميل طرف سياسيّ بعينه المسؤولية المباشرة عمّا حصل من انفلات إرهابي لم تعهده تونس، فإنّ السياقات الحافّة لا تعفي من مسؤولية ما حصل: فهؤلاء القطعان من الغوغاء يتصرّفون بفعل تجييش إعلاميّ معيّن آخر فصوله ما عمدت إليه قناة «حنبعل» من اعتذار شعبوي مقرف لبثّها تصريحات المخرجة نادية الفاني، و«تأديب» الصحفيّ المسؤول عن تمريرها، أو هم يتصرّفون وفق عقيدة «الولاء والبراء» التي أفصح عنها «الاحتراب الأهليّ» غير المعلن والذي حمي وطيسه في المدّة الأخيرة حول نمط المجتمع والهويّة والتطبيع والمال السياسيّ…

فلا ريب أنّ «الولاء والبراء» يجعل من المواطنين فسطاطيْن، فسطاط المؤمنين ويمثّلهم الأوصياء على الهويّة العربيّة الإسلاميّة، وفسطاط الكافرين ويمثّله سائر «ساكنة هذه الديار» من ديمقراطيّين وحداثيّين وعلمانيّين..يزعم الفسطاط الأوّل ملكيّة حصريّة لهويّة ناجزة منتهية، فيستعمل الهويّة في حربه ضدّ الحرّية، ويقرّ الفسطاط الثاني بأنّ الهويّة حركة لا سكون وخطّ لا نقطة وترحال لا مقام، فينتصر للحرّية على حساب الفهم المتكلّس للهويّة.

على هذا التنازع عقدتُ، منذ وقت قريب، ورقة في «الشروق» موسومة بـ«المرض بالهويّة أحد جراحات التقدّم». والحقّ أنّ الأحداث الأخيرة لم تفاجئني، فذلك الجنس من المقدّمات لا يقود إلاّ إلى هذه النتائج التي نشهد. مرّت الأمور من تلدّد الفريق الأوّل في مناقشة العهد الجمهوري المسمّى، فيما بعد، بـ«إعلان تونس للمواطنة وقيم الجمهورية» والردّ عليه باستدعاء «سلاح» التطبيع، وصولا إلى تعقيب الفريق الثاني بطرح قضيّة «المال السياسيّ» ومسألة تمويل الأحزاب عامّة، والتنديد بحملات الاسترقاق الانتخابي عبر شراء أصوات الناخبين.

كان لا بدّ أن تمضي الأمور إلى مأزق، فينسحب ممثّلو حزب «النهضة» من «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي»، ليشرعوا في حملة تشهير ضدّ بعض مكوّنات الهيئة وصولا إلى المطالبة بحلّها.

وكان من الطبيعيّ أنْ يجد كلّ مفلس أو من كسدت بضاعته وأحالته ثورة 14 جانفي على العطالة «الفنّية» الفرصة سانحة ليركب قطار المزايدات، فيقلب في صفحات كتابه القديم عن نظريّة المؤامرة ومعجم المقاومة والممانعة، ليختبر صمود شعارات منتهية الصلاحيّة أمام المتغيّر التونسيّ والعربيّ عموما بدليل أنّ بعض تلك الشعارات بقيت ظواهر صوتيّة تمتدح الطغاة لأنّهم يتحدّون الغرب الصليبيّ، وينافحون عن النخوة العربيّة إلى آخر قطرة دم من دماء شعوبهم المغلوبة والمسحوقة!

كنت أتوقّع هذا السيناريو تقريبا، لسببين على الأقلّ، الأوّل تقنيّ يخصّ منهجيّة تدبير الاختلاف كما يفهمها المجتمعون تحت قبّة الهيئة العليا. والثاني إجرائيّ يخصّ المآلات المنتظرة للحروب التي تخاض بديلا عن الحوار والتفهّم والاعتدال والوفاق.

والحقّ أن سوح هذا القتال – في غير مجلس الهيئة – قد استبد بها الساسة اليوميّون والمناضلون العقائديّون، وتمّ فيها تغييب أطياف من المثقفين والمؤرّخين والمتفلسفين والأدباء والفنّانين ليدلوا بآرائهم في مسائل الهويّة والغيريّة والخصوصيّة والكونيّة إلخ.. وكان حريّ بآراء العارفين – لا السياسيّين – أن تفتح آفاقا رحبة لحوار وطني ضروريّ، وتوفّر مفاتيح ضروريّة تقود إلى قواسم جامعة ومشتركة بين الفرقاء، وتخرج بنا من نفق الحملات والمزايدات والتبكيتات إلى وضوح الرؤية ورحابة الفكرة.

خروج حزب «النهضة»، وتهديد البعض من خارج «الهيئة» ومن داخلها بسحب الثقة منها إعلان صريح عن المشاكل الحقيقية التي تعترض تدبير الاختلاف بين التونسيّين من خلال هيئة شبه ممثّلة، وافقَ جميع من فيها على الانخراط في صلبها منذ البداية، ولم نسمع تشكيكا أو تشهيرا إلا حين انسدّت الآفاق أمام الحوار الإيجابيّ، هيئة – شئنا أم أبينا – تمثّل، في تونس اليوم، دائرة الحوار، ودائرة الممكن التي يأخذ فيها أحدنا «الآخر» بعين الاعتبار، وليس خارج هذه الدائرة إلاّ دائرة المطلق. وعلى ذلك، فإنّ الخروج عنها، الآن، أو التلويح به، أو الدعوة إليه هو خروج عن إطار يوفّر الحدّ الأدنى للعيش معا. وفي غياب الحوار وتحمّل المسؤوليّة في تأطير الشباب والمواطنين، ينفتح باب الشيطنة وادعاء الملكيّة الحصريّة للحقيقة، ولن يكون مفاجئا لنا إنْ شغَب شاغبٌ أو نعب ناعبٌ أو زفر زافرٌ !!

العبر في أخبار من غبر

في حوادث سنة 323هـ ببغداد: “ وفيها عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم، فأخذوا يقتحمون دور الناس، قادتهم وعامـّتهم، فإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنّية ضربوها وكسروا آلة الموسيقى. لقد أخذوا يتدخّلون في معاملات البيع والشراء بين الناس فيعترضون على هذا الأمر أو ذاك. وكانوا يعترضون على مشي الرجال مع النساء في الطريق، فإن هم رأوا ذلك أوقفوا الرجل والمرأة وتحرّوا، بالسؤال، عن العلاقة التي تربطهما، فإن أرضاهم الجواب كفـّوا عنهما وأطلقوهما، وإلاّ ضربوا الرجل وحملوه إلى صاحب الشرطة، فيشهدون عليه بالفاحشة..”

هذا شأن الحنابلة وقد «أرهجوا بغداد» بعبارة ابن الأثير، وما أشبه حنابلة «دار السلام» بحنابلة تونس المحروسة !!

• ننشر المقال بإذن خاص من الصديق مختار الخلفاوي . المقال منشور على صفحته بالفايسبوك على الرابط التالي

بقلم مختار الخلفاوي*

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.