في مخاطر الميكيافيليّة السياسيّة

في مخاطر الميكيافيليّة السياسيّة



في مخاطر الميكيافيليّة السياسيّة،

 

كنت أعتزم الكتابة عن العنجهيّة التي واجه بها السيّد الوزير الأوّل المؤقّت إحدى الصحافيّات يوم لقائه بأعضاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة حتّى كانت الأحداث المؤسفة التي جدّت الجمعة، والتي سمّتها الجزيرة إياها – مشكورة كالعادة – جمعة العودة (!!)، فذهب ذلك بما تصنّعت من العزم، وكان هذا الحديث .

بدءا، ينبغي أن نتّفق أنّ حقّ التظاهر والاعتصام يجب أن يكون مكفولا للجميع بعد الثورة، وأنّ القمع البوليسيّ الذي عاملنا به النظام الاستبداديّ ينبغي أن يكون تجربة تذكّرنا بأنّ الاستبداد هو أبو الرذائل السلطانيّة، وأنّ الحرّية هي أمّ المطالب الشعبيّة. وعليه فإنّ العنف الذي صدر عن قوّات الأمن في تصدّيها لمحاولة الاعتصام بساحة القصبة يوم 15 جويلية والذي طال بعض المصلّين العاديّين وطال الصحافيّين الحاضرين كان عنفا غير متكافئ بل واستعراضيّا، وسلوكا قمعيّا من الممكن تجنّبه مع تطبيق القانون على الجميع، وبوسائل متدرّجة كما تضبطها التراتيب. على أنّ هذا الإقرار لا يمنع من التذكير، أيضا، بحقيقة ليست طيّ التاريخ، ولكنّها معيشة وما بالعهد من قدم .

من ينكر أنّ الثورة التونسيّة انطلقت من الشوارع والأسواق، ووقعت التعبئة لها – افتراضيّا – في الشبكات الاجتماعيّة، وتمّ تأطيرها – واقعيّا – عبر النقابات والفاعلين في المجتمع المدنيّ بالأساس؟ لا أحد ينكر أنّها كانت ثورة مدنيّة شعبيّة سلميّة بامتياز، التقى فيها التونسيّون والتونسيّات، بمن فيهم الشباب والشابّات جنبا إلى جنب، على مطالب التشغيل والكرامة والحرّية، ورفع الجميع في تلك التحرّكات شعارات "التشغيل استحقاق.." و"الخبز والماء وبن علي لا"، و"ديقاااج"، وغيرها من الشعارات المدنية التي فاجأت الجميع بحسّ مواطنيّ عال. الأمر نفسه ما تمّ في حوادث الأعوام الماضية التي كانت بمثابة المسامير الأخيرة في نعش الطاغية أعني أحداث الحوض المنجميّ، وفريانة والقصرين في 2008، ثمّ أحداث بن قردان في العام 2009 ، وغيرها من هبّات عارضة سرعان ما تمكن النظام البوليسي من إخمادها في المهد حتى اندلعت شرارة ثورة الكرامة والحرّية في السابع عشر من ديسمبر 2010 .

دون أن أدخل في تدقيقات مفهوميّة ليس هذا سياقها، كانت ثورة حيويّة "ما بعد هوويّة" بعبارة فتحي المسكيني أو هي بعبارة أنطوني نيغري ثورة من أجل "ديمقراطيّة المشترك". في تلك الأوقات كان بعض مواطنينا من الإسلاميّين على اختلاف ألوانهم الأيديولوجيّة، وعلى اختلاف درجات تشدّدهم، منصهرين في التيّار العامّ، فلم نر رموزا، ولا سمعنا شعارات دينيّة في المظاهرات، ولم نر المساجد تدفع بالمتظاهرين، ولا كان المعتصمون في الساحات قبل سقوط الطاغية يصلّون الجمعة ولا العصر في الشوارع، ولا كنّا نسمع أصوات التكبيرات ولا التلبيات، ولا أناشيد الغرباء التي تروّج لها شبكة "سحاب" السلفيّة  !

ما كان يجري هو شيء تونسيّ محض. شيء سيتحّدث عنه الأقارب، من بعد، والأباعد باعتباره أنموذجا تونسيّا مهيّأ ليجرّ قطار الثورة في أنحاء العالم العربيّ. كذلك هي الثورة لا معنى لها معزولة عن فكرة التقدّم .

  اليوم، وتحت تأثيرات "مشرقيّة"، وبفعل تركيز مشهديّ من بعض الفضائيّات، يريد من فاته الظهور في قطار الثورة التونسيّة بشعاراته المميّزة ورموزه الخصوصيّة أن يؤلّف سيناريو مستوردا (أقرب إلى النماذج الباكستانيّة) لثورة فئويّة تعتصم في المساجد، لتنطلق منها إن أمكنها، وتجرّ بيوت العبادة إلى المزايدات السياسيّة والانعزاليّة. وكأنّي بلسان حالهم يقول: ما الذي يمنع أن نطلق ثورتنا في الصيف بعد أن أطلقها شهداء الحرّية والكرامة في الشتاء؟  وفي ما يشبه تصحيح "أخطاء" الثورة، يعمد البعض منّا إلى ليّ عنق الأحداث، لتوافق هوى في القلوب. وإذن، فقد صار الحديث دارجا عن جمعة الغضب والحسم والمصير والعودة، وبات التركيز على الشعارات والحجج الدينيّة معاينا ملحوظا .

بعد فترة من الوداد القلق، والحوار الصعب تحت سقف الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، وبين خروج مؤقّت وتعليق فانسحاب، يتّضح للعيان أنّ مغادرة طاولة الحوار ليس إلا دخولا في ضدّه، وأنّ الدعوة إلى حلّ "الهيئة العليا" باعتبارها الممكن الديمقراطيّ الوحيد إلى حدّ الآن ليس إلاّ مرورا إلى هيئة بديلة لا تبتعد عن "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " !

ثمّة ذكرى أليمة ألحّت عليّ حين رأيت ما جرى في محيط مسجد القصبة وفي بهوه، وما انتهى إليه من اعتصام البعض فيه بُعيد صلاة المغرب

إلى أن تمّ إخراجهم من قبل الشرطة. تذكّرت صورة لا يمكن أنْ تمحى بسرعة من ذاكرتي هي الصورة التي عرضتها إحدى شاشات التلفزيون الباكستانيّ ذات يوم من العام 2007 لمولانا عبد العزيز الإمام الفارّ من المسجد الأحمر متنكّرا في زيّ امرأة في كامل لباسها الشرعيّ: الجلباب الأسود والخمار الأسود والنقاب الأسود. وذلك بعد أن ترك مريديه وطلبته يواجهون مصيرهم القاسي إلى جانب أعداد من المارّة والفضولييّن وأحد الصحفييّن وبعض رجال الشرطة الذين قضوا في تلك المعارك "المقدّسة": معركة تحرير بلاد السند وخراسان من حكم بني علمان  !

للأسف الشديد، ما ينبغي أن يفهمه الناس أن هذا السيناريو الباكستاني يراد له أن يستعاد في تونس، بعد أن اتّضح أن ذلك يندرج ضمن سلسلة من الحلقات بدأت بالخروج عن سقف الحوار الوطني ليتمّ ارتجال مقامرات انعزالية تكشف نوايا البعض منا في الاستئثار بكل شيء وإلا فهي الحرب، في الوقت الذي يدعونا فيه أداء الحكومة المتعثّر إلى توجيه الجهود من أجل استئناف المسار الثوريّ، ومزيد الضغط لتعديل ذلك المسار، وتفعيل العدالة الانتقاليّة والجنائيّة بما تقتضيانه من تقصّ ومحاسبة ومصالحة وإصلاح يطال القضاء والإعلام والشرطة نفسها، ويواجه الفساد الإداريّ، ويعيد حقوق الناس والدولة المنهوبة، ويقود البلاد إلى انتخابات ديمقراطيّة حرّة ونزيهة. في هذا الوقت نتلهّى في مشاحنات مفتعلة حسب أجندات سياسيّة لبعض الأطراف المحلّية والإقليميّة والدوليّة، وننسى أنّا ما كنّا لنسقط الطاغية لولا وحدة صفوفنا، وتصادي ما دوّت به حناجرنا، وتعانق ما هفت إليه قلوبنا وعقولنا

 

مواطنون لا فاتحون، متحاورون لا متحاربون، شركاء مؤثِرُون لا فرقاء مستأثرون، مختلفون طوعا لا مؤتلفون كَرْها.. ولنحذر ما يمكن أن تجنيه الميكيافيليّة السياسيّة على الثورة وما جنت الثورة التونسيّة على أحد  !

مختار الخلفاوي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.