الثورة العظيمة التي لم يقم بها الإسلاميون في تونس

نشر الدكتور المولدي لحمر في شهر جويلية المنصرم هذا المقال المهم حول الإسلاميين في تونس وتطورهم التنظيمي والأسئلة الدقيقة التي تطرحها عليهم المرحلة في ساحة ديمقراطية سيتماهون فيها مع قوى سياسية أخرى لن تسمح لهم مستقبلا بما اعتادوه من تورية للمقاصد والأهداف إبان تعرضهم للقمع …ولأهمية التحليل وحينيته في الظرف الراهن نعيد نشره في مساهمات المصدر



الثورة العظيمة التي لم يقم بها الإسلاميون في تونس

 

نشر الدكتور المولدي لحمر في شهر جويلية المنصرم هذا المقال المهم حول الإسلاميين في تونس وتطورهم التنظيمي والأسئلة الدقيقة التي تطرحها عليهم المرحلة في ساحة ديمقراطية سيتماهون فيها مع قوى سياسية أخرى لن تسمح لهم مستقبلا بما اعتادوه من تورية للمقاصد والأهداف إبان تعرضهم للقمع …ولأهمية التحليل وحينيته في الظرف الراهن نعيد نشره في مساهمات المصدر

 

        يُروى عن الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، أنه كان  يواجه خصومه خلال النقاشات التي خاضوها معه  للمطالبة بإجراء إصلاحات سياسية نوعية في البلاد تجعل منه مجرد رمز سياسي لوحدة الوطن، بالعبارة الاستفهامية التالية: " كيف لي أن أكون ملكا دون أن أحكم؟ ".

         في واقع الأمر كانت تلك العبارة و بنيتها الاستفهامية تعبر بدقة عن الذهنية السياسية التي استبطنها الملك المغربي من خلال التجربة الثقافية و العملية الطويلة التي راكمها سلاطين المغرب –وجميع السلاطين في كل مكان- بشأن الدولة، و هي تقول بأن الملك لا بد له من أن يملك، و أن من يملك لا بد له من أن يحكم. و لم يكن حجم استغراب الملك من الطرح الذي كان خصومه يتكلمون عنه –و كان الملك بتكوينه القانوني يعرف جيدا هذا الطرح على المستوى النظري- إلا بحجم عدم استعداده الذهني الثقافي للقبول بمقتضيات الحداثة السياسية التي يحاول الملك المغربي الحالي السير فيها بحذر .

         مشكل الإسلاميين التونسيين اليوم ينبع من الناحية المبدئية من نفس أصل المشكلة التي كان يعاني منها النظام المغربي قبل أن تعصف به رياح التغيير: فهم و استساغة مبادئ الحداثة السياسية .

         قياسا بمعضلة الملك الراحل الحسن الثاني يمكن القول بأن معضلة الإسلاميين التونسيين اليوم قد تتلخص في العبارة الاستفهامية التالية: كيف لنا أن نكون إسلاميين و أن ننجح في الانتخابات دون أن نحكم بالإسلام؟ ليس هذا عيبا في حد ذاته، و ليس الإسلاميون من ابتدعوا هذا المنهج في التفكير، فقد سبقهم إلى ذلك الشيوعيون و النازيون و الإسلاميون المتشددون الذين يحكمون الآن في كثير من البلدان. بيد أن ما ينبغي أن نعلمه جميعا هو: أولا أن كل التجارب التي ذكرتها فشلت. و ثانيا أن قسما منها على الأقل (الشيوعيون) لم يكونوا يقولون بأن ما كانوا يحكمون به هو كلام الله المقدس، أو أنه التأويل الصحيح لكلام الله، فما بالك حينما يُحكم الناس بقول الله الذي يختلف في تأويله المؤولون .  و ثالثا أنه تاريخيا لم يكن هناك إسلام واحد لا من الناحية التأويلية و لا من الناحية العملية، و أن الطرق إلى الله كانت و لا تزال كثيرة، و أن الإسلام أنتج عددا لا يحصى من المذاهب و الملل و النحل، لم يكفر بعضها بعضا إلا على خلفيات سياسية جلية .

         يتلخص مشكل الإسلاميين التونسيين إذن في أصوليتهم في فهم الإرث الديني الثقافي العظيم للتجربة الإسلامية العربية. و تكمن أصوليتهم الفهمية هذه في رفضهم لفكرة الإرث في حد ذاتها، و اعتقادهم -دون التقيد بفكرتي الزمان و المكان- بأن الأديان، و بالتحديد الدين الإسلامي، ليست إرثا معنويا وعقائديا يمكن أن نحفر بينه و بيننا مسافة، بل حقا فطريا مستمرا معنا و فينا لا يمكن إخضاعه للتفكير و المناقشة و التقييم. و من هذا المنظور يضع الإسلاميون أنفسهم في نفس السياق الذهني العقائدي الذي كان الرسول و أصحابه يشتغلون فيه لتبليغ الدعوة و بناء الأمة، بما اقتضاه ذلك من فرض للإرادة السياسية على الآخرين (المشركون والبعض من أصحاب الكتاب المقاومين للإسلام)، ومن تكوين للدعاة و المفتين و الأئمة و القضاة و الوعاظ و غيرهم بغرض صناعة المجتمع المسلم .

         الكل يعرف أن الهدف الأسمى للرسول و أصحابه و ثوار الإسلام الذين كانوا معهم في ذلك الوقت –بحسب إيمانهم بذلك- كان إذن تغيير المعتقدات من التعدد (الشرك) إلى التوحيد، و بناء مجتمع جديد يشترك فيه الناس في نفس العقيدة، بما يجعلهم نظريا سواسية في الحقوق و الواجبات، و كان ذلك شرطا أساسيا لبناء أمة الإسلام. و في ذلك السياق كان شرط الانتماء إلى أمة المسلمين (و ليس المجتمع الإسلامي لأن هذه عبارة حديثة) هو أن تكون مسلما، و أن تكون مسلما يعني أن تتبنى العقيدة الإسلامية و أن تتصرف، نظريا على الأقل، بمقتضى تلك العقيدة التي يمثل الفقهاء و الأئمة و الدعاة و الوعاظ التجسيد المحسوس النسبي لمذهبها و رؤيتها للحياة و للعلاقات بين البشر .

         سأترك جانبا التفرعات اللامتناهية التي أنتجها الإسلام في ما يخص تأويل هذا المبدأ و تجسيده في السلوك العقائدي و السياسي، بحسب الصراعات التي كانت تشق المؤمنين و اختلاف ثقافات الأقوام التي وصلها الإسلام و أدخلها في فلكه الثقافي. و لكنني سأتوقف عند نقطة هي مربط الفرس في هذا المقال: بسبب أن الإسلام في منشئه ربط الانتماء إلى الأمة بالانتماء إلى العقيدة، و ربط بين الإيمان بتلك العقيدة و سلوك المؤمن في الحياة العامة، فإن المسلم الفقيه و الإمام و الداعية و المؤدب لم يكونوا يرون في أنفسهم في ذلك السياق إلا أناسا اؤتمنوا على توفير ذلك الشرط، الذي يجعل منهم في كل زمان و مكان دعاة إلى العقيدة الإسلامية، ناهيين عن الفحشاء و المنكر بالمعنى الذي تعطيه له عقيدتهم، معتبرين أن الحق معهم و أن كل من خالفهم في ذلك يكون كافرا أو عاصيا، إلا من دخل في الذمية من أهل الكتاب .

         لن أناقش هنا مدى اتساع المسافة التي كانت تفصل عمليا بين المبادئ التي قام عليها هذا النموذج و الممارسات الفردية و الجماعية النسبية التي صنعت الإسلام التاريخي، ذلك أن الإسلام الذي أنتج السنة و الشيعة و فرق الخوارج العديدة، و كبار مؤسسي المذاهب الفقهية بمتشدديها و متسامحيها، وكبار علماء المنطق و المتصوفة، أنتج أيضا كبار شعراء الحب و الخمر و الغزل (العلماء المسلمون حققوا ديوان بشار ابن برد) و أولياء الله الصالحين. لكنني أود أن أنبه إلى أن الإسلاميين التونسيين اليوم يتصرفون في كثير من الأحيان كمن استوعب مرة واحدة و بشكل نهائي عصرا انصهر فيه كيان الأمة بالعقيدة،  بحيث أصبح لا يمكنهم اعتبار المجتمع "سويا" إلا إذا اتبع مبادئ الحياة الإسلامية كما يرونها هم –و هم مختلفون في ذلك- وفق المذهب المالكي الذي ينتمون إليه .

         و في الواقع يمكن القول بأن معظم الإسلاميين التونسيين الناشطين سياسيا اليوم ما زالوا لم يستوعبوا ثلاثة أشياء على الأقل على غاية من الأهمية: الأول أنهم يشتغلون في مجتمع مسلم لا يحق لهم فقهيا تكفيره كله أو بعضه أو اتهامه بأنه زاغ عن الحق و تنصيب أنفسهم مؤتمنين على إرجاعه إلى الصواب. و الثاني أنهم يشتغلون في عصر لم تعد فيه الأمة العادلة التي ينبغي تشييدها هي أمة المؤمنين بل أمة المواطنين. أما الثالث فهو أن الثورة الكبرى التي عرفها هذا العصر ليست فقط ثورة التكنولوجيا التي استطاعت أن تفهم قوانين الطبيعة و تطوعها لصالح الإنسان، بل كذلك –و بشكل خاص- ثورة العلوم الإنسانية التي غيرت من نظرة الإنسان إلى نفسه و إلى الآخرين و إلى تاريخ الشعوب و الأديان، و شرحت مفهوم القدر بمعناه الاجتماعي، وهذا مفهوم  يرجع الفضل في وضعه إلى عالم مسلم تونسي المنشأ هو عبد الرحمان ابن خلدون: "اعلم أن  للعمران أحوال" -أي تقريبا قوانين- لا تعود في كيفية اشتغالها إلى العالم الماورائي .

         انطلاقا مما تقدم تظهر لنا ملامح معضلة الإسلام السياسي للإسلاميين التونسيين اليوم: إذا ما قبلوا بفصل الدين عن السياسة فمعناه أن نقدهم للمجتمع التونسي الحالي، من المنظور الديني الذي يجعل السلوك الفردي و الجماعي امتداد للعقيدة، سيصبح بدون معنى، و أن دعوتهم للتمسك بالعقيدة إيمانا و ممارسة من أجل حل مشاكلنا الاجتماعية ستصبح بدون موضوع، و الأخطر من ذلك كله أنه سيكون عليهم استلهام نظرية سياسية-اقتصادية جديدة خلفيتها الثقافية إسلامية لكنها تستوعب فكرة أن عقيدة المسلم ليست هي حجر الزاوية التي يبني على أساسها انتماءه السياسي .

         لقد ضاق الإسلاميون ذرعا بمطلب الفصل بين الدين و السياسة مثلما ضاق الملك الحسن الثاني ذرعا بمطلب الفصل بين الملكية و الحكم. لكن ما يجب فهمه هنا هو أن القضية الرئيسية في كلا الحالتين هي الدخول إلى العصر السياسي الحديث، وهو عصر لا ينبغي فيه للملك أن يحكم و إلا أصبح منصبه موضوع منازعة، و لا ينبغي فيه للعقيدة المقدسة أن تصنع السياسة و السلوك الاجتماعي و إلا أصبحت موضوع سخرية و استفزاز. و هذا ما بدأت تتدحرج إليه البلاد بعد حادثة سينما أفريكا و النقاش الذي دار على الهواء بين عبد الفتاح مورو و محمد الطالبي .       

         من الناحية المبدئية أعتبر في ما يخصني أن فكرة فيلم "لا ربي لا شيء" (أو لا ربي لا سيدي) لا تساوي قيمة أمام دواوين بشار ابن برد و أبو نواس و الحلاج و غيرهم بالمئات. و إذا ما أقام الإسلاميون (هناك من يقولون بأنهم لا يوافقون على ما جرى و لكنهم لا يدينون العملية بصريح العبارة و دون مواربة) الدنيا و لم يقعدوها على عرض هذا الفلم، فمعناه أنهم يعتبرون أن العصر الإسلامي الذي أنتج فطاحل شعراء العربية،بمن فيهم المتنبي، عصرا خارجا عن حضارة الإسلام يجب التنكر له و إدانته. وهذا يعني أننا قد نكون مقبلين على كارثة حضارية حقيقية. صحيح أن عرض الفلم في هذا الوقت المشحون بالحملة الانتخابية قد يكون غير موفق، و لكن الرد عليه، خاصة من طرف الأحزاب السياسية، كان في منتهى التخلف السياسي. هل يعقل أن يقدم حزب ممثلا في أحد رموزه من الصف الأول رأيه في فلم؟ لو تجرأ الإسلاميون التونسيون على الانخراط في الحداثة السياسية التي تفصل بين العقيدة و السياسة لكانت إجابة من تكلم منهم كالتالي: "أنا أتكلم باسمي الخاص و أقول أن الفلم يعكس وجهة نظر صاحبته التي لا أشاطرها فكرتها و لم يعجبني فيلمها البتة و أرى أنه هابط ذوقيا، لكن حزبي لا ينصب نفسه وصيا على أحد، و هناك نقاد محترفون من كل الاتجاهات يقيمون الفلم من الناحية الفنية، و على كل من يريد أن يشاهد الفلم فليفعل، و من لا يريد فذلك شأنه الخاص، الإسلام أعظم من ذلك بكثير". لكن أحدا من الإسلاميين لم يفعل ذلك بصوت عال و بقناعة لا تناقضها خطب المساجد..السياسية .

         و كذا الأمر بالنسبة لما صرح به محمد الطالبي، و إذا كنت أعتبر أنه لم يكن من اللياقة في شيء أن يتكلم المؤرخ الفذ على الهواء بما يخدش حياء مجتمعنا، و أن يتحدى في هذا السياق بالذات قناعاته الراسخة، و هو يعرف أن علمه هو علم النخبة (مثلما هو علم الفقهاء بالنسبة للمؤمنين العاديين)، فإنني أقول أن الذي صدم  الشيخ مورو ليس الجانب الأخلاقي في المسألة -كما حاول أن يوحي بذلك أثناء النقاش- بقدر ما كان القوة التفكيكية الهائلة للمعرفة التاريخية التي سلطها الطالبي على جانب من تاريخ حضارتنا العظيمة ليخرجه من القدسية التي غلفه بها المذهب المالكي (وفكر ووعي الشيخ مورو صنيعة الفكر الديني) إلى النسبية التاريخية .

         فمتى تأتي هذه الثورة العظيمة التي ستصالح الشباب مع هويته التاريخية و ستزيد في قوة و إشعاع أصحاب الحضارة الإسلامية قرونا طويلة قادمة؟ .

 

 

 

الدكتور المولدي لحمر – تونس – الصباح 13 و 14 جويلية 2011

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.