مختار الخلفاوي يكتب رسالة إلى منصف المرزوقي في مهمته الجديدة

كتب الصديق مختار الخلفاوي في غمرة الحدث أمس الاثنين إثر انتخاب الدكتور منصف المرزوقي رئيسا للجمهورية نص هذه الرسالة الهامة التي تتوسل بالحدث لتذكير نزيل قرطاج الجديد ورابع رئيس للجمهورية التونسية أن اللحظة تاريخية حقا وأن بالانتظارات جمة …



مختار الخلفاوي يكتب رسالة إلى منصف المرزوقي في مهمته الجديدة
بقلم مختار الخلفاوي

 

كتب الصديق مختار الخلفاوي في غمرة الحدث أمس الاثنين إثر انتخاب الدكتور منصف المرزوقي رئيسا للجمهورية نص هذه الرسالة الهامة التي تتوسل بالحدث لتذكير نزيل قرطاج الجديد ورابع رئيس للجمهورية التونسية أن اللحظة تاريخية حقا وأن بالانتظارات جمة وان المخاوف كذلك …وفي ما يلي النص الكامل لرسالة مختار الخلفاوي بعنوان " من باردو إلى قرطاج مرورا بالكراكة "

من باردو إلى قرطاج مرورا بالكرّاكة !

لا أعرف، على وجه اليقين، المشاعر التي انتابت الدكتور منصف المرزوقي، وهو يمضي على ترشّحه، بدءا، لرئاسة الجمهورية، ولا الأحاسيس التي تملّكته، بعد أن "انتخبه" المجلس بأغلبيّة الثلثيْن، ولا كيف أمضى ليلته الأولى بانتظار طلوع الصباح، تأهّبا للطّرق على أبواب قصر قرطاج.

ما أعلمه أنّ سيادة الرئيس، إلى جانب كونه مناضلا حقوقيّا وسياسيّا، هو أديب مفكّر. وأتوقّع أن لا يفوته، من تحت نظارتيْه السميكتين، مشهدٌ يجري على بعد أمتار من مجلسه تحت قبّة باردو. بضعة أمتار، فقط، تفصله عما جرى منذ ما يربو عن قرن ونصف في بطحاء باردو، حيث يتجمّع، الآن، مئات التونسيّات والتونسيّين ليقولوا إنّ بناء مستقبل أولادهم فرض عين لا فرض كفاية.

ولا أراه غافلا من على كرسيّه الأخضر الوثير عن مصدر التأوّهات التي تصل كلّ ذي سمْع من أقبية هذا المجلس الضخم، أو من البطحاء القريبة منه. الأقبية التي استقبلت أجداده "العُصاة" مغلولي الأعناق، وقد ألقت بهم محلّة "زرّوق" أو "الجنرال رستم" باعتبارهم مارقين عن الأمر العليّ، والبطحاء التي شهدت جلسات التعذيب الطويلة التي تحمّلها باي العربان "علي بن غذاهم" أو رفيقه في انتفاضة 1864 "فرج بن دحر" قبل أن ينتهيا في الكرّاكة !

لا أظنّ أنّ مشهد باي العربان "علي بن غذاهم" ممّا يغيب عن ذهن د. منصف المرزوقي، وهو في موقفه ذاك مساء أمس الاثنين 12 – 12- 2011 .

في البطحاء نفسها، وقف "علي بن غذاهم" الرجل الذي كاد يدخل، قبل سنتين من ذلك، قصر باردو فاتحا، وقف محاطا بالمخازنيّة وأوباش الناس، على حدّ عبارة ابن أبي الضياف. هذا يضرب رأسه، وذلك يلطم وجهه، وذاك يشتمه وينتف لحيته. ثمّ يُؤخذ، بعد ذلك، إلى الكرّاكة، ليُعثر عليه ميّتا صبيحة يوم 10 أكتوبر 1867.

لا أعلم، على وجه اليقين، مشاعر المناضل الحقوقي والسياسيّ، والمفكّر والأديب، وقد أتته "الرئاسة" منقادة إليه تجرّر أذيالها. هو الذي قدّم دليلا جديدا على أنّ التاريخ خير مؤدّب.. وقد كان، قبل أقلّ من عام، طريدا ليس له من عزاء في وحشة المنافي غير ترديد جملته الأثيرة إلى نفسه: هذا النظام لا يَصْلح ولا يُصلَح !

ولكنّ التاريخ الذي يؤدّب، هو نفسه الذي لا يرحم. إنّ كاتب هذه السطور، ككثير من التونسيّين، يحتفظ لك في ذاكرته – يا سيادة الرئيس – بكل تقدير واحترام، منذ أتيتُ على أكثر ما طالته يدي من كتبك ودراساتك، ومنذ أن كان التونسيّون في سجنهم الكبير ينتظرون إطلالة منك على هذه الفضائيّة أو تلك تدعوهم إلى العصيان المدني، جازما للمتردّدين من حلفائك اليوم أن لا فائدة في مصالحة نظام بن علي، وأن لا حلّ غير إسقاطه.

واسمح لي أيّها المناضل القديم، فإنّي أحسّ أنّك مازلتَ ذاهلا منذ سقط الديكتاتور، ومنذ عدتَ، غيرَ مصدّق، ليرفعك بعض الأنصار على الأعناق عارضا استعدادك لرئاسة البلاد الخارجة لتوّها من كُمّ ديكتاتور هارب. بعدها لم أعد أتعرّف عليك، ولم أعد أجد المناضل والحقوقيّ والمفكّر والأديب الذي عرفناه لسنوات خلت. صرتَ أميل إلى العزلة والصمت. بل صرتُ أراك ظلاّ باهتا للرجل الذي عرفته تونس في سنوات الجمر، أو قل صرتُ أراك أسيرا في يد حلفائك بوكالة من بعض "أنصارك"، حتّى شككتُ في أنّك تبيّت أمرا بليل، وإلا فكيف تلوذ بالكتمان ولا تردّ على الأسئلة والتعليقات والرسائل التي توجّه إليك من الأقارب والأباعد أيضا.

ومن الأسئلة المعلّقة إليك، أنّك، منذ عدتَ إلى تونس، قبلتَ لنفسك دورا لا يليق بماضيك ولا برصيدك، فلم نسمع لك رأيا في الشأن الذي يتهدّد عيش التونسيّين المشترك، ولم نسمع لك موقفا من الاعتداءات على الحرّيات والحقوق التي ناضلتَ أنت من أجلها كتابة وممارسة. بل ووجد الكثير في مواقفك ومواقف حزبك مهادنة وخضوعا لبعض الأطراف. وقلنا إنّ ذلك منك حيلةُ انتخابيّة، حتّى إذا صرتَ من الائتلاف الحاكم بعد الانتخابات، رضيتَ لنفسك رئاسة محدودة الصلاحيّات في الوقت الذي لم يرضَها لك معارضوك.. بل إنّك صوّتَ ضدّ مقترح المعارضة بتمكينك من صلاحيّات جديدة. فكيف يمكن أن نفهم منك هذا التعفّف الثوريّ يا سيادة الرئيس؟
أفهم، أو أحاول أن أفهم أنّ إصرارك على طلب الرئاسة، بكلّ ثمن، هو أمر داخل في عقيدتك النضاليّة لأنّك تعتبر أنّ حقوق الإنسان يمكن بل يجب أن تمارس من ساحة السلطة المضادّة مثلما تمارس من ساحة السلطة. وأذكر أنّك كتبتَ بأنّ على مناضلي حقوق الإنسان أن يتوزّعوا داخل السلطة وخارجها لتحقيق أهدافهم، وأنّك تؤمن بأنّ الفيصل الحقيقيّ ليس بين المناضل الحزبيّ والمناضل الحقوقيّ، بلْ هو بين من يواصل النضال داخل السلطة من أجل المبادئ ومن يتنكّر لها إذا وصل إليها.

ولكنْ، ها إنّ حزبك – يا سيادة الرئيس – ينكث عهدك عند أوّل اختبار حين رفض الإمضاء على بيان منظمة العفو الدولية لحقوق الإنسان الذي قدّمه فرع تونس. وهذا، كما لا يخفى عنك، لا يبشّر بخير، إذ ما معنى رفض الإمضاء على إقرار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجميع وإلغاء عقوبة الإعدام، وكلّ أشكال التمييز بين الجنسيْن؟
حقيقة، لا أستطيع أن أتعرّف عليك، في هذه المرحلة، وزملاؤك الحقوقيّون يتذكّرون مواقفك الصلبة عند كلّ محنة حقوقيّة سواء في "الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان" أو في "المنظّمة العربيّة لحقوق الإنسان"، أو "المجلس الأعلى للحرّيات"، ويذكرون انتصارك لكونيّة حقوق الإنسان وشموليّتها ضدّ دعاة الخصوصيّة والنسبويّة الثقافيّة. ولكنّ ها أنّك الآن، وقد انتقلت من مرحلة النضال الحقوقيّ إلى مرحلة الزعامة السياسيّة ترفض الإمضاء على ما ناضلتَ من أجله السنوات الطوال !

سيادة الرئيس، مضى جدّك القادم من بلاد "السّيبة" من باردو إلى الكرّاكة، ومضيتَ إلى قصر قرطاج، وهذا، في حدّ ذاته وبمعزل عن الإحداثيّات التي أوصلتك، إنجاز تاريخيّ يحمّلك مسؤوليّة جسيمة نرجو أن لا تغيب عنك استتباعاتها ورهاناتها، اليوم وغدا.

 

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.