من سجنان إلى مكثر مرورا بسوسة والكاف.. ما الّذي تخفيه الشّجرة؟

لاحظ أغلب المواطنين الّذين نزلوا إلى شارع الحبيب بورقيبة يوم 14 جانفي 2012 احتفالا بالذّكرى الأولى للثّورة التّونسيّة أنّ الشّارع كان، ورغم ما نقله الإعلام من مشاهد تعكس الانسجام، متعدّد الألوان بسبب اختلاف التّقييمات وتباين …



من سجنان إلى مكثر مرورا بسوسة والكاف.. ما الّذي تخفيه الشّجرة؟

 

لاحظ أغلب المواطنين الّذين نزلوا إلى شارع الحبيب بورقيبة يوم 14 جانفي 2012 احتفالا بالذّكرى الأولى للثّورة التّونسيّة أنّ الشّارع كان، ورغم ما نقله الإعلام من مشاهد تعكس الانسجام، متعدّد الألوان بسبب اختلاف التّقييمات وتباين المواقف في تقييم سنة الثّورة الأولى.ورغم أنّ الحدث مَرَّ في هدوء وعاد الجميع "فرحين مسرورين" إلاّ أنّ ما وقَع بمكثر من ولاية سليانة أكّد أنّ المسلسل لم تكن خاتمته سعيدة كما توهّمنا.

لقد أبى متساكنو مدينة مكثر وبعض المناطق الأخرى إلاّ أن يستغلّوا الحدث لصناعة الحادثة، إذْ نفّذ المواطنون إضرابا عامّا شُلَّت بموجبه الحركةُ بأكثر من مدينة بسليانة عبّروا من خلاله عن غضبهم من الإقصاء الّذي عاشته ولايتهم طوال العقود الماضية واستمرّ في سنة الثّورة الأولى.

طبعا من الطّبيعيّ أن يعدّ ذلك البعضُ تنغيصا لفرحة التّونسيّين بعيدهم الأوّل، ومن البديهيّ أن يكون أكثر الغاضبين من تمرّد أهالي سليانة الجناح المتحفّظ بكلّ ألوانه اعتبارا لكونه المنتصر في انتخابات 23 أكتوبر سواء الّذين انتصروا بشكل مباشر أو الّذين فازوا بالوكالة!


إنّ القارئ الجيّد للمشهد السّياسيّ التّونسيّ ما بعد الثّورة عليه أن يجمِّع التّفاصيل من كلّ الزّوايا حتّى يتمكّن من إدراك الصّورة ما تُظهِر وما تُخفِي. يجب أن لا ننسى أنّ سليانة كانت من أولى المناطق الّتي عكّرت صفو حكومة الباجي قايد السّبسي حالما أمسَك بزمام الأمور، وتمّت الإشارة حينها إلى أنّ أطراف سياسيّة كانت وراء أحداث "الشّغب".

ما لم يذكر رسميّا هو أنّ اليسار المتطرّف لم يكن راضيا على المسار الّذي اتّخذته الأحداث ما بعد القصبة 1 و2 وأنّ أحداث سليانة كانت رسالة واضحة بأنّ الطّريق الّذي يُفرَش لليمين سيجِد اعتراضات كثيرة من هذا الجناح.علينا أن لا ننسى أنّ اليمين المحافظ طعَن اليسار حين استغلّه في "القصبتين" ثمّ مضى يشوّهه أثناء الحملة الانتخابيّة، وهذا من الأسباب المفسّرة لانتفاضة اليسار وإن لم يوضَّح ذلك في حينه لأسباب أمنيّة وسياسيّة.

إنّ ما وقع بمدينة سجنان من أعمال مشبوهة لا تحتاج تجميلا، ووقَع هذه المرّة بخلاف المتوقَّع في الشّمال، ما يمثِّل امتدادا لما وقَع سابقا في الجنوب نعني خاصّة بروز أمراء في بن قردان الحادثة الّتي مرَّت دون غبار بسبب ما كان يقَع حينها في الجارة الجنوبيّة ليبيا من عمليّات عسكريّة.


إنّ الصّراع جنوب/شمال بألوان صراع يمين/ يسار هو صراع لا  يخفى ما يتبطّن عليه من وقود جهويّ قبليّ فضحته نتائج الانتخابات الأخيرة خاصّة في ولايات سيدي بوزيد وقبلي وسوسة وسليانة، على أنّ الضّبابيّة – وحتّى التّعتيم المقصود – هو الّذي جعل المشهد ضبابيّا إلى الحدّ الّذي قد يقِف فيه الفرد الواحد اليوم مع طرفٍ وغدا مع الطّرف المعادي له، إذْ لا غرابة في أن يُنَاصِرَ الطّالب الّذي صوّت "قَبَليّا" في الجنوب لليمين جناحَ اليسار في كليّته الموجودة بالشّمال أو بالوسط. إنّ ذلك يعكِس اضطرابا ولكنّه لا يكشِف كلّ الحقيقة!

آخر ما يشارُ إلى هذا الصّراع هو ما وقَع الاثنين 16 جانفي بكليّة الآداب بسوسة حيث تعرَّض مجموعة من طلبة اتّحاد الطّلبة المحسوبين على اليسار إلى اعتداء من طلبة ينتسبون إلى حزب النّهضة الحاكم.

الاعتداء جاء بعد تطوّرات بدأت يوم الجمعة لمّا جدَّ خلافٌ بين الطّرفين استهدَف من خلاله طلبة النّهضة إفشالَ اعتصام يقوم به طلبة المرحلة الثالثة منذ أسبوع للمطالبة بحقهم في المنحة الجامعية المحرومين منها. الاعتداء خلّف جرحى من الطّلبة المعتصمين والأمر مرشّح لمزيد من التّصعيد الّذي يذكِّر بشكل ما بما وقَع بكليّة منوبة بين اليمين واليسار وإنّ غُلِّف حينها بأعذارٍ أراد الجميعُ يمينا ويسارا وحكومةً أن يحجِب بها الحقيقة. ما يلفت الانتباه هو ورود أخبار عن احتجاجات بولاية الكاف جدّت هي كذلك يوم الاثنين، وعلينا أن لا ننسى علاقة التّجاور والنَّسب بين أهالي الكاف وأهالي سليانة!


لاشكّ أنّ ما يقَع على الميدان من تناحر وصراعات هو انعكاس لما يحدث في الخطابات المهذّبة من صراع برسائل مشفّرة. والمشكلة هي أنّ المواطن البسيط هو الّذي يدفَع الآن الثّمن، والمؤسف أنّه سيظلّ وحده يتكبّد الخسائر ويدفع ضرائب صراع الإيديولوجيّات الّتي يتبنّاها غالبا تبنيّا قبليّا. والأخطَر هو أن تواصل النّخب والإعلام تعليقاتها المهذّبة والمشفّرة والّتي تتوهَّم بها تجنيب البلاد حمّاما من الدّم دون موجِب.

إذا كان ثمّة مشاكل بدائيّة الدّوافع فلا ريب أنّ حلّها يبدأ بتسميتها بما هي عليه حقّا لا بأسماء تحجبها عسى أن يؤدّي الحجبُ إلى تجاوزها، فخلف الشّجرة ثمّة غابة عناوينها القبليّة والجهويّة ثمّ الإيديولوجيا الّتي تتغذّى منهما وتستقوي بهما.

والشّجرة لا يمكن لها أن تحجب الغابة إلى الأبد.

بقلم : صالح رطيبي – كاتب وإعلامي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.