تحولات المشهد التونسي.. الشّيطان يسكن في التّفاصيل!

بإعلان خبر هروب الرّئيس السّابق مساء 14 جانفي 2011 عقَد كلّ واحد من التّونسيّين آمالا بحجم تصوّره للحريّة والدّيمقراطيّة والعدالة والرّفاه. كان كلّ واحدٍ منّا يظنّ أنّ تصوّره هو تصوّر البقيّة وأنّ …



تحولات المشهد التونسي.. الشّيطان يسكن في التّفاصيل!

 

بإعلان خبر هروب الرّئيس السّابق مساء 14 جانفي 2011 عقَد كلّ واحد من التّونسيّين آمالا بحجم تصوّره للحريّة والدّيمقراطيّة والعدالة والرّفاه. كان كلّ واحدٍ منّا يظنّ أنّ تصوّره هو تصوّر البقيّة وأنّ ما يعقده من آمال يجتمع عليه كلّ التّونسيّين، ولكن يوما بعد آخر وطوال سنة فاجَأ بعضُنا بعضَنا إذ تبيّن أنّنا كنّا نتخفَّى على ميولات متنافرة ونستبطن تصوّرات متضّادة جعلتنا ننظر إلى المستقبل وكأنّنا شعوب وقبائل وصَحَّ فينا القول الّذي نعاه لنا بُعيْد الحدث الثّوريّ رُوَّادُ المواقع الاجتماعيّة ومفاده: "جمعتنا الثّورة وفرّقتنا الأحزاب"، بل فرّقتنا – ومن خلال الأحزاب والتّيارات والأطياف والحساسيّات…-  الإيديولوجيا يعتنِقُها صاحبُها دينا راسخا واعتقادا ثابتا يُصلِّبه في الاستماتة من أجل إثبات كونها "الحقيقة" ومن أجل تأكيد ضَلال المختلفين.

منذ البداية بدأت التّفاصيل الغريبة والمريبة تنتشِر وتنشُر الأصداء: وصلنا من بن قردان حديث عن أمير وحاشية ورعيّة فانتبهنا هنيهة ثمّ مِلنا إلى التّكذيب. وتفاجأنا بمرور الأيّام بأزياء غريبة تقتحم الشّارع فاستغربنا ثمّ تساءلنا ثمّ تعوّدنا الأمرَ أو كِدنا ومضينا لا نبالي..وتسرّبت التّفاصيل إلى المؤسّسات خاصّة منها التّربويّة فتبادلنا أخبار أستاذات أُحْرِجْنَ أو شُتمن أو عُنّفن، وبلغتنا أنباء "ديقاج" تُشهَر في وجه "كافرات وكافرين" بتصوُّر المُشهِرين فارتبكنا نتجادل الأمرَ بعيدا عن مواضعه في غفلة عن أحداث مشابهة وموازية كانت تتضخَّم بفعل تراكم استهنّا به.

وكانت تفاصيل أخرى تعاقبت هنا وهناك من الاعتداء على الفنّانين ودُورِ السّينما إلى استحداث إمارة هنا أو هناك تُقَادُ فيها الرّعية ترهيبا وتخويفا سرّا وعَلَنًا بحسب قوانين وشرائع غير الّتي ألفناها مرورا بحادثة النّقاب والاعتصام بكليّة منوبة وما أحدثته من إرباك وارتباك لمختلف القوى والمتابعين بما في ذلك أوّل حكومة شرعيّة. لم تتغافل الحكومة وحدها، بل تغافلت كلّ الأطراف الّتي استهانت واكتفت غالبا بالحديث من "أبراجها العاجيّة" تحليلا وشرحا وتفصيلا.

إنّ المشهد التّونسيّ الرّاهن ورغم مواصلة سياسة النّعامة المقلِّلة من خطورة ما يتكشَّفُ عليه من نقاط سوداء بات يُنبِئُ بأنّنا مررنا إلى السّرعة الثّانية بما يُبرِّرُ رُدودَ الفعل الخطيرة الّتي لمسنا بوادرَها في الأيّام الأخيرة سواء من خلال الطّفرة الجديدة من الاعتصامات والإضرابات تَضُوعُ منها روائح "الحزبيّة" رغم خطب التّبرُّؤ والتّنصُّل أو من خلال تشويه بعض رموز الحكومة بتسريب مقاطع فيديو مفبركة لا شكّ في انحطاط مستوى مروّجيها.

غير أنّ الاكتفاء بالامتعاض والانتقاد دون تدارس الأسباب وإحالاتها وبشائرها تجعلنا نُشرِّع من خلال مواصلة تهاوننا ومهادتنا إلى ما هو أخطر. إنّها لحظة الوقوف على التّفاصيل مهما بدت هيّنة لأنّ الشّيطان يسكن في التّفاصيل، فإن نحن تعامينا عنها – التّفاصيل بألوانها المختلفة والمتضّادة – أوْجدنا المناخ الملائم ليخرج المارد من قمقمه ويعبث بأحلامنا الغضّة حول تونس المستقبل الّتي قدَّم في سبيل حريّة شعبها وكرامته أبناؤُنا دماءَهم. فليبادر كلّ منّا من موقعه وبحسب ما تفرضُه مسؤوليّته إلى صون دماء الشّهداء بإيقاف سيل التّفاصيل الرّديئة قبل أن تتحوّل إلى طوفان سيأتي على الأخضر واليابس.

لقد ترسّخت فينا قناعةُ شعارنا الثّوريّ " لا خوف بعد اليوم" يصلبنا ويعيد إلينا الثّقة في أنفسنا، والآن حان الوقت لنُرسِّخَ شعارَ حماية بلادنا وتأمين مسارها إلى المرسى الصّحيح باتّفاقنا قولا وفعلا على أنّه "لا صمت بعد اليوم" نُشهرها في وجه كلّ من يهدّد مكاسبنا وأمننا وحلمنا.

صالح رطيبي- كاتب وإعلامي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.