فلاّقة!

لم أستغرب دعوة النائب عن “حركة النهضة” في المجلس الوطني التأسيسيّ السيّد الصادق شورو إلى تطبيق حدّ الحرابة والبغي على المحتجّين والمعتصمين ومن يقف وراءهم من “مدبّري” ما سمّاها بـ “الثورة المضادّة”. ولم تقنعني، في الآن نفسه، التبريرات التي سيقت، بعد ذلك، لإقناعنا بأنّ الرجل لم يكن ي



فلاّقة!

 

لم أستغرب دعوة النائب عن "حركة النهضة" في المجلس الوطني التأسيسيّ السيّد الصادق شورو إلى تطبيق حدّ الحرابة والبغي على المحتجّين والمعتصمين ومن يقف وراءهم من "مدبّري" ما سمّاها بـ "الثورة المضادّة". ولم تقنعني، في الآن نفسه، التبريرات التي سيقت، بعد ذلك، لإقناعنا بأنّ الرجل لم يكن يعني التصليب وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي والتغريب في أدنى الحالات، وبأنّه قصد التشنيع فحسب، وإن كنتُ أتفهّم مقدار الحرج الذي من الممكن أن يضع فيه كتلته من جهة، والحكومة برمّتها، من جهة ثانية، مادامت معنيّة بمثل هذه الفتوى مباشرة

صحيح، من المحزن أن تخرج دعوة في قالب فتوى من تحت قبّة مجلس من المفترض أن يمثّل الإرادة الشعبيّة، ومن رجل ذاق ويلات السجون والتعذيب والقمع، غير أنّه لا غرابة إذا ما تبيّنا الخلفيّة الفقهيّة المتكلّسة التي ينطق عنه النائب المذكور. وهي خلفيّة تشتغل وفق مرجعية ترى في السلطان ظلاّ للّه، وتعتبر كلّ معارض محاربا للّه ورسوله ولأولي أمره وجب قتله. وهي تعيد إنتاج نفسها باستمرار ودون مكافحة للنصوص مع النوازل، في غياب محاولات جادّة وجريئة للتفاعل مع استدراكات لاهوتيّة بالأساس يضطلع بها الأكفاء من المفكّرين، وليس بالضرورة رجال الدين .

لم أستغرب هذه الفتوى بالقتل، وما بالعهد من قِدَم حين شبّه النائب المذكور ما يُفْتَرض من أنّه "انتقال ديمقراطي" بصلح الحُدَيبيّة! وكيف نستغرب، وهذا زمان "التفليق"؟

ولا أتحدّث عن تلك الكوكبة من "الروافض" النبلاء الذين اصطلح عليهم بـ"الفلاّقة" (ثلاث نقاط فوق القاف)، فأولئك مثال للمقاومة والرفض الشعبيّ قبل الحماية الفرنسية وبعدها وقبل بناء الدولة الوطنيّة وبعدها .  

 ظاهرة "الفلاّقة" الجدد ممّا يليق بما نشهده في الشأن الجاري من "تفليق" الكلّ ضدّ الكلّ .

الاعتصامات العشوائيّة التي تقطع طريقا أو تمنع مصنعا من الإنتاج أو تعطّل مصالح الناس أو التي هدفها السطو على الملك العموميّ أو التوسّع على حسابه هي نوع من "التفليق" المطلبيّ .

 الاعتصامات العبثيّة التي يمارسها بعض "الخوارج" على القانون والأعراف من متعصّبين يريدون فرض أنماط دينيّة اجتماعيّة وثقافيّة قروسطيّة على سائر التونسيّين بالتدريج هي وجه من "التفليق" السلفيّ .

 الانفلاتات الغوغائيّة التي تمارسها ميليشيّات حزبيّة تدّعي نُصرة الحكومة المؤقّتة، وتدشّن، بوعي أو دونه، احترابا أهليّا خطيرا من خلال ما ندبت له نفسها من دفاع عن "الشرعيّة" ولو باستعمال ما تحتكره الدولة من عنف، وذلك بالتدخّل لإفشال تحرّكات الخصوم، أو بفضّ اعتصامات المحتجّين، أو بترويع المعارضين أو بتخوينهم وشيطنتهم أيضا.. هي ضرب من "التفليق" الفاشيّ .

تخوين معارضي الحكومة من رموز حزبيّة ومن مناضلين ونقابيّين ومثقّفين ونخبة بتحميلهم وزر ما تردّت إليه البلاد من أوضاع صعبة، والاستقواء عليهم بـ"ديكتاتوريّة الشرعيّة" هو نوع من "التفليق" السياسيّ .

اكتفاء المعارضات بتسقّط أخطاء الحكومة وبناء مشاريعها وبرامجها على تعداد العثرات والسقطات، وانتظارها لقائد معلّم مخلّص يجمع شتاتها هو "تفليق" ديمقراطيّ .

دعواتُ بعضهم للحكومة كي تتشدّد مع المحتجّين والمعتصمين بدءا من إحالتهم إلى القضاء إلى الضرب على أياديهم وصولا إلى تصليبهم وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف وتغريبهم بعلّة أنّهم "يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فسادا" هي "تفليق" فقهيّ وقانونيّ

تناسُلُ جمعيّات وهميّة بعد 14 جانفي تحت عنوان المحافظة على الأخلاق الحميدة والأعمال الخيريّة لتتنادى إلى حلقات لتعليم تغسيل الموتى وختان البنات أو للقيام بحملات لهداية "الضالّين" في المطاعم والمقاهي أو في المتنزّهات العموميّة.. هو نوع من "التفليق" الجمعيّاتي .

تراجع أولويات الحكومة المؤقّتة من قيادة الانتقال الديمقراطيّ، وإعداد دستور للبلاد بالتزامن مع الشروع في وضع أسس العدالة الانتقاليّة وتصريف شؤون المواطنين والاستجابة إلى مطالبهم العاجلة وطمأنتهم على الأخرى الآجلة لفائدة  مَحاور تخدم مصالح "حزبيّة" ضيّقة هو "تفليق" انتقاليّ بامتياز .

إلى حدّ الآن لا بوادر على أنّنا غادرنا منطق "السيبة" و"المخزن". ولذلك فكلّنا في النّهاية.. "فلاّقة "!

 

بقلم مختار الخلفاوي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.