مرثيّة متأخّرة لأبي الوليد بن رشد

بوحي من تراجع الحكمة أمام هجمة الغلواء وسَفَلَة الدهماء، وتحوّل غربان البين إلى عُقبان، أسوق هذه الخواطر الحزينة مرثيّة متأخّرة لأبي الوليد بن رشد

مرثيّة متأخّرة لأبي الوليد بن رشد

 
 

بوحي من تراجع الحكمة أمام هجمة الغلواء وسَفَلَة الدهماء، وتحوّل غربان البين إلى عُقبان، أسوق هذه الخواطر الحزينة مرثيّة متأخّرة لأبي الوليد بن رشد .
منذ أشهر قليلة، استراح رُفات "نيكولا كوبرنيك" في موكب دَفْنٍ رسميّ داخل كاتدرائيّة "فرومبرك" شمال بولونيا، بعد 467 عاما من موت صاحبه. وكان الرياضيّ والطبيب والفلكيّ البولونيّ الذي نقض فرضيّة "بطليموس" في مركزيّة الأرض وسكونها قد مات قبل أن تلقى نظريّته التصحيحيّة الرواج المناسب، ليُدفن، على عجل، سنة 1543 تماما كسائر المغمورين والهراطقة الذين انغلقت عليهم قبور بلا شواهد على وجه التعيين .

 الموكب الجنائزيّ الذي جرى في بولونيا، كان تتويجا لرحلة بحث واقتفاء لرفات "كوبرنيك" بين أجداث كاتدرائيّة "فرومبرك" بدأها، منذ قرنين، بحّاثون في علوم الآثار. وكان من اللاّفت أنّ الرفات، وقبل أن ينام نومته الأخيرة، قد جاب المدن المحيطة والقريبة التي شهدت خطى العالم الجليل أثناء حياته. والأهمّ من كلّ ذلك هو ما لقيه الموكب الجنائزيّ، عند مروره بكنائس الجهة، من ترحاب واعتراف وصلوات، في سياق مراجعة جريئة لإدانة بابويّة سابقة لـ"كوبرنيك" بتهمة مخالفة تعاليم الكنيسة!

 هذا المشهد النبيل من الاعتراف والمحبّة أثار في النفس مشهدا آخر، وهيّج لي أشجانا أندلسيّة جرت بين عدوتيْ المتوسّط منذ أكثر من ثمانية قرون. ذلك هو مشهد رفات أبي الوليد ابن رشد (المتوفّى سنة 1198 م = 595 هـ )، وهو يشقّ طريقه من مرّاكش، ويتّجه شمالا نحو مسقط رأسه في قرطبة. كان ابن عربيّ صاحب "الفتوحات المكّية" الشاهد على الموكب الجنائزيّ الحزين حين كتب: "ولمّا جُعِل التابوت الذي فيه جسده ( يقصد جثّة ابن رشد ) على الدابّة، جُعِلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب ابن جبير، كاتب السيّد أبي سعيد، وصاحبي أبو الحكم عمرو بن السرّاج الناسخ، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى من يعادلُ الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله – يعني تواليفه ! فقال ابن جبير: يا ولدي. نِعْم ما نظرتَ ! لا فُضّ فوك ! فقيّدتها عندي موعظة وتذكرة …"

  مثلَ جوقة في مأساة إغريقيّة، يشيّع الأصحاب الثلاثة عِدليْن، عِدْلا للإمام وعِدلا لتواليفه ! ما أصعب هذا الوداع الأخير لرجل نُكِب أكثر من مرّة، ومات أكثر من ميتة. وكانت "أمّ النكبات" نكبته على يد الأمير الموحّدي يعقوب المنصور. أُبْعِد ابن رشد أوّلا إلى "أليسانه"، في خطوة رمزيّة تعكس إخراجه من الملّة إذا علمنا أنّ هذه البلدة الصغيرة القريبة من قرطبة أغلب ساكنتها من اليهود. ثمّ تكفّلت الغوغاء بالباقي، فأحرقت مؤلّفاته في الساحات العامّة، وتلاشت في ألسنة اللّهب عقول اليونان والفرس والهنود والعرب المسلمين. وعاش ابن رشد ليرى "سفلة الدهماء" كما سمّاها تمنعه من دخول المسجد الصغير في قرية "أليسانه". ثمّ ينتهى المطاف به منفيّا إلى المغرب حيث مات محبوسا في مرّاكش .

  من عبث الأقدار أنّ الفيلسوف الذي مال في باب " البعث والجزاء " إلى أنّ الإنسان يبعث بعثا روحانيّا لا بَعْثَ الأجساد هو من شُقّ على قبره لـ"تُبْعَثَ" جثّته، بعد ثلاثة أشهر من دفنها في إحدى مقابر مرّاكش، وترحّل مع كتبه إلى مسقط رأسه قرطبة .

لا أحسبُ كتبَه أو ما تبقّى من كتبه التي طالها الهوس الدينيّ بالتخريب والتحريق إلاّ كانت مصدر إزعاج لا ينتهي وموطن ريبة لم تنجلي إلاّ بابتداع تلك الحيلة الماكرة: ترحيلها، فورا، مع صاحبها ! وماذا تساوي الكتبُ غير أن تعدل كفّة التابوت؟  

ولا أستطيع أن أقرأ في هذا الترحيل إلاّ اجتثاثا للأبدان والأذهان، فحينما شقّ الموكب الحزين مضيق جبل طارق، كانت الحكمة "الإسلاميّة" التي عرفت مع ابن باجه وابن طفيل وابن رشد عصرها الذهبيّ قد ودّعتنا إلى الشمال حيث تبدأ دورة جديدة، وتُبعث بعثا آخر تكون فيه أساسا من أسس الحداثة الأوروبيّة .

 

 منذ أشهر قليلة، ينام "كوبرنيك" في قبره هادئا. وليس أدعى لراحته من هذا الاسترجاع "القانونيّ" لهويّة افتقدها طيلة نحو خمسة قرون، فضلا عن هذا الاعتراف الكنسيّ المتأخّر .

 أمّا أبو الوليد ابن رشد أو أفيرواس كما صار يسمّى فأشكّ أن يكون كذلك. الأرضُ، عندنا، ما تزال ثابتةً منبسطة، والشمس وحدها الجاريةُ طالعةً وغاربةً ! ( * )

 

* انظر فتوى الشيخ ابن باز في تكفير القائلين بثبوت الشموس ودوران الأرض في "الأدلّة النقليّة والحسّية على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض ".

 

بقلم: مختار الخلفاوي

 

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.