تونس – هل كان الإعلام وحده “نوفمبريا” قبل 14 جانفي؟

لا يتورع البعض ممن امتهنوا في المدة الأخيرة جلد الصحافة ونعتها بأقذع النعوت وتحميلها كل ما يحل بالبلاد من مآسي من التشهير بكل الإعلام التونسي مكتوبه ومسموعه ومرئيه، الذي ينعتوه بالنوفمبري والبنفسجي متسائلين (بكل براءة) عن سبب صمت الإعلام مدة 23 سنة على طغيان بن علي وعصابته ومنددين بانتفاع شق لا بأس به بأموال الوكالة التونسية للاتصال الخارجي وبدفاع عديد الأقلام عن مكتسبات النظام ونجاحاته…



تونس – هل كان الإعلام وحده “نوفمبريا” قبل 14 جانفي؟

 

لا يتورع البعض ممن امتهنوا في المدة الأخيرة جلد الصحافة ونعتها بأقذع النعوت وتحميلها كل ما يحل بالبلاد من مآسي من التشهير بكل الإعلام التونسي مكتوبه ومسموعه ومرئيه، الذي ينعتوه بالنوفمبري والبنفسجي متسائلين (بكل براءة) عن سبب صمت الإعلام مدة 23 سنة على طغيان بن علي وعصابته ومنددين بانتفاع شق لا بأس به بأموال الوكالة التونسية للاتصال الخارجي وبدفاع عديد الأقلام عن مكتسبات النظام ونجاحاته.

وانطلاقا من هذا السيل الجارف من التهم تذهب آراء المنتقدين إلى أن هذه الصحافة لا يحق لها اليوم أن تنتقد الحكومة ولا أن تنتقد أيا كان وان عليها أن تكون في "خدمة الشعب". بل أن هناك من المتظاهرين أمام مقر التلفزة من طالب بحقه في مراقبة تحرير أشرطة الأنباء.

هذا التحامل الممنهج الذي تغذيه بالطبع تصريحات المسؤولين الحكوميين وحملات التشهير التي تصل حد الوقاحة ومس الأعراض على الفايسبوك، يريد أن يعبر ولا شك عن تبرم بعض المواطنين من مناصري الأحزاب الحاكمة من موقف الإعلام من الحكومة ومن السلطة بصفة عامة بدأ برئيسها المرزوقي وحتى آخر أعضاءها.

ولكن ما يجب تذكره وما يمكن أن يؤلم الكثيرين هو أن هذا الإعلام الذي نتحدث عنه والذي بقي سندا للنظام النوفمبري طيلة 23 سنة لم يكن في مجتمع فارغ من المواطنين ولم يكن في عالم افتراضي لا نعرفه. لقد أنتج هذا الإعلام في المجتمع التونسي ولمن لا يعلم فإن الإعلام ليس سوى التعبيرة الأولى عما يختلج في المجتمع. الإعلام لا يأتي من فراغ ولكنه المرآة العاكسة في لحظة زمنية محددة للمجتمع بأكمله بتعبيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فلئن أنتجنا إعلاما تابعا وإعلاما خانعا للسلطة ومتماه مع خطابها الخشبي الأبله لطيلة سنوات فذلك لأن المجتمع التونسي لم تنضج فيه عندئذ التعبيرات المعارضة للسلطة والمتمكنة من أدوات الصراع معها.

ويمكن أن نسوق هنا مثلا بجريدة الموقف، لسان الحزب الديمقراطي التقدمي التي لا يمكن نعتها بالنوفمبرية بأي شكل من الأشكال والتي حاولت لسنين طوال تقديم خطاب إعلامي مناضل يكافح من أجل الحرية والديمقراطية في البلاد، ولكن الموقف لم تكن تتمكن من بيع أكثر من عدد قليل من النسخ لا يسمن ولا يغني من جوع ولا شك أنه بالطبع أقل بكثير من عدد أنصار الأحزاب الحكومية الذين يسبون الإعلام اليوم.

إن العدد الكبير من أنصار حركة النهضة الذين زج بهم في السجن مثل العديدين من مناضلي اليسار بمختلف تياراته الذين قاوموا الاستبداد البورقيبي ومن بعده النظام البوليسي لبن علي هم الوحيدون المخولون لأن ينتقدوا غيرهم من التعبيرات دون الانتقاص منها في كل الأحوال.

أما من تبقى فعليه أولا أن يسأل نفسه ماذا فعل بها؟ هل خرج  في مظاهرة؟ هل شارك في إضراب؟ هل حرر مقالة ونشرها؟ هل يعلم عدد المنشورات التي احتجزتها الآلة القمعية لسنوات طويلة في المطابع وقبل أن تخرج للسوق؟ هل يعلم هؤلاء المتبجحون بحرية جاء بها شباب الثورة التونسية أن عديد الجرائد قد أوقفت في المطابع وأن الناشرين كانوا مجبرين على تحمل خسارتها أولا ومن ثم إعادة نشرها وتوزيعها فورا حتى لا يأتي الصباح وجريدة واحدة غائبة عن السوق؟

فلئن كانت لدينا صحافة مناشدة وتأييد فلأن المجتمع كان مليئا بالمناشدين والمؤيدين الذين لم تخلقهم الصحف من عدم. وإن كان عندنا نقص في أخبار النضال السياسي والكفاح من أجل الحريات فإن ذلك مرده لعدم كثرة هذه النضالات ولندرة حدوثها. ولئن لم تتحدث جرائدنا عن التجاوزات في الإدارة وفي الحزب الحاكم وفي العائلة الحاكمة، عدا في حالات نادرة جدا مثل حركة 18 أكتوبر مثلا، فذلك لأنه لم يتوفر لها السياسي المناضل الذي يريد أن يقول كل ذلك ويتحمل عبء قوله فيسجن ويقمع.

إن الإعلام لا يمكن أن يكون الشماعة التي نضع عليها كل نواقصنا ونصمت عن الباقي، فالإعلام يعبر عن حالة سياسية وليس هو الحالة السياسية، تماما مثل هو الحال اليوم بعد الثورة، الإعلام يعبر من حالة سياسية هي حالة الحرية ولا يمكن أن يعبر فقط عما ترغبه الأغلبية أو ما تريد أن تقوله الأقلية أيضا وفي الاتجاهين.

علي العيدي بن منصور

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.