ديمقراطي.. يعني مْراتِك تبقى مْراتِي !

مادامت بدايات هذا القرن تصرّ على أنْ تتشبّه ببدايات سَلَفه، فإنّي أجد من المناسب جدّا التذكير بحادثة جرت في فاتحة القرن الماضي، ورواها طه حسين عن أستاذه أحمد لطفي السيّد وسقوطه المريع في انتخابات محلّية آنذاك. لم تكن هزيمة “الأستاذ”، كما …



ديمقراطي.. يعني مْراتِك تبقى مْراتِي !

 

مادامت بدايات هذا القرن تصرّ على أنْ تتشبّه ببدايات سَلَفه، فإنّي أجد من المناسب جدّا التذكير بحادثة جرت في فاتحة القرن الماضي، ورواها طه حسين عن أستاذه أحمد لطفي السيّد وسقوطه المريع في انتخابات محلّية  آنذاك. لم تكن هزيمة "الأستاذ"، كما كان يُعرف، بسبب من شعبيّته المتدنّية، ولا بسبب من برامجه الانتخابيّة الباهتة. لقد سقط الأستاذ في الانتخابات بعد أن أشاع خصمُه في الناس أنّ منافسه الليبراليّ ديمقراطيّ ! نعم. لقد "اتّهمه" بالديمقراطيّة التي لم ينس أن يشرح معناها أمام جمهور من الفلاّحين البسطاء: ديمقراطي.. يعني مراتك تبقى مراتي  !

 وأصاب هذا التعريف السخيف أستاذ الأجيال في مقتل. ولم يعد هناك من شكّ في أنّ الديمقراطيّة – والعياذ باللّه – لا تعدو كونها إباحةً للـ"حريم" بأنْ يعدّدن من أزواجهنّ أو من بُعولتهنّ كما يمكن أن يقال! وحتّى بعد سؤال الأستاذ من قِبل بعض أنصاره الحائرين: هل أنت حقّا ديمقراطيّ كما يشاع عنك؟ أجاب بثقة ودون تردّد: أجل.. وسأبقى ديمقراطيّا ما حييت  !

 إذن، إنّ أهون الأسلحة لإصابة فكرة مّا في مقتل هو تعريفها بما ليس فيها، ثمّ المرور إلى نقضها من خلال ما أسنِد إليها من تعريف. وعلى هذا، أمكن أنْ نفهم كيف يمكن أن تتحوّل قيمة هي عصارة تفكير فلسفيّ وحقوقيّ كالديمقراطيّة إلى شيء لم يدر بخلد دعاتها لا في اليونان ولا في أوروبا الأنوار. واليوم، قِسْ على الديمقراطيّة أخواتٍ لها وسليلات. وبنفس منطق الإشاعة والجهل المركّب، تتفشّى بيننا الأراجيف وأحاديث الإفك. وإنّي لا أحسب "المواطن" الذي ظهر للعالمين وهو يرفع لافتة أمام المجلس التأسيسي كُتِب عليها "لا للديمقراطيّة" إلاّ من ذلك السلف الذي حدّثنا عنه طه حسين. كما لا أخال الحشود التي ترفع في وجوهنا المصاحف، وهي تهدر مطالبة بالشريعة بعيدة عن تلك الجمهرة من "قبيلة حدّثنا" بعبارة جمال البنّا، ولا حتّى بعضا من الصفوة الذين يخلطون بين الدين والتفكير الدينيّ، بين الإسلام والإسلاميّين أو الإسلامويّين، ناهيك عن الفرق بين السَّلف الصالح والصّلف الطالح  !

 يوم الأحد 25 مارس، حينما كان عددٌ من المتظاهرين "ضدّ الإساءة إلى المقدّسات ونصرةً للمصحف الشريف" يتسلّقون برج الساعة في شارع بورقيبة لرفع راياتهم السود على قمّتها، كان إخوةٌ لهم من الكومبارس الجهاديّ يعتدون على الفنّانين المسرحيّين وضيوفهم من المثقفين والأسَر والأطفال قبالة المسرح البلدي في الشارع نفسه، تماما كما فعل في المكان ذاته بوليس بن عليّ حين اعتدى على جليلة بكّار وسائر الفنّانين والمثقفّين في وقفتهم قبل يوميْن فقط من هروب المخلوع. وماذا نتوقّع أن يحدث من مواجهة هؤلاء بأولئك في يوم واحد وشارع واحد بتقدير "حكيم" من وزارة الداخليّة. وإذن، فقد انقلب احتفال المسرحيّين باليوم العالمي للمسرح تحت شعار "الشعب يريد مسرحا" إلى كرنفال تنكّري حزين غزت فيه تلك الكوكبة من "الغرباء" منصّة العرض، وقذفت الفنّانين بالأحذية والبيض، وألجأتهم إلى داخل مبنى المسرح بجريرة أنّهم من عبدة الأوثان. ألمْ يُحْصِ أحدُ كبرائهم مثالب التمثيل في رسالة وسمها بـ:إقامة الدليل على حُرمة التمثيل؟ !

في غمرة هذا "التدافع الاجتماعيّ" الذي لا يليق وصفه إلاّ بالعبث، وأمام الرايات المرفوعة مطالبة بتطبيق "شرع اللّه"، وأنّ "الشعب مسلم ولن يستسلم" وأمام الدعوات المسعورة للقتال (قتال من ضدّ من؟) وللجهاد المقدّس (ضدّ من؟)، ونصرة المقدّسات (من دنّسها حقّا؟).. إلخ.. إلخ.. في غمرة هذا التدافع الذي كان أشدّ وأشقّ من ديكتاتوريّة البروليتاريا نفسها لا مناص من التذكير ببعض الأمور التي يبدو أنّها محفوفة بقدر لا يستهان به من سوء الفهم والمغالطات. عنيت أنّ العنف الحقيقيّ يُخاض في اللّغة وباللّغة، وأنّ قواعد الاشتباك في الخطاب هي، عموما، غير مرعيّة. عنِيت خطاباتٍ مستشرية تتحدّث عن "لادولة" تونسيّة منذ 56 عاما، وعن "تغريب ومحاربة للإسلام والهويّة والتعريب". ولفرط التكرار، صار من البديهيّ أنه كلّما شغب شاغب أو نعب ناعب إلاّ وتحلّق حوله كلّ من ذهب في ظنّه أنّ البلاد كانت تعيش جاهليّة معاصرة لم يجبّها إلاّ الفتح المبين، وأنّ التونسيّين إلاّ أقلّهم مدعوّون إلى الإسلام طوعا أو كرها وإلاّ فدفْع الجزية عن يَدٍ وهم صاغرون  !

 تبدو الأمور، بعد قرابة قرن من الحملة الانتخابيّة الخاسرة للأستاذ أحمد لطفي السيّد، وكأنّها ترواح مكانها. في سياق "مُغالطيّ" يبني فيه الخطاب أساطير مؤسّسة عن الفتية المضطهدين الذي أووا إلى كهفهم أو وجدوا أرض اللّه واسعة فهاجروا فيها حتّى منّ عليهم بالنصر المكين، لن تزدهر إلاّ سوق الذعر على بيضة الدين، والسخط على غربة الإسلام بين أهله، ومن ثمّة إعلان الجهاد. ولو على طواحين الهواء ! وفي سياق "مُغالطيّ" يقوم فيه الخطاب بالانزياح من معنى أصلي إلى معنى مولّد، لن تَعْجبَ لسماع أحد "متفلسفتهم" ومنظّريهم يشرح للمريدين من حوله أنّ الرافضين لتخاريف من أدْمَن زيارةَ تونس المحروسة لهداية أهلها من "مُدَعْوذي" أرض الرمال – أنّ هؤلاء الرافضين ليسوا إلاّ حفنة من الشواذّ واللّواطيّين ومبادلي الزوجات وشُرّاب النبيذ.

نعم. ألم يقل قائلهم منذ قرنٍ: ديمقراطي.. يعني مْراتك تبقى مراتِي  !

مختار الخلفاوي/إعلامي من تونس

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.