الحكومة التونسية في مواجهة الإعلام

تونس التي ظلت لسنوات طويلة أحد أسوأ دول العالم في مجال الحريات الإعلامية تحتضن غدا اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي تنظمه ‘اليونسكو’ بحضور شخصيات دولية بارزة…



الحكومة التونسية في مواجهة الإعلام

 

تونس التي ظلت لسنوات طويلة أحد أسوأ دول العالم في مجال الحريات الإعلامية تحتضن غدا اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي تنظمه ‘اليونسكو’ بحضور شخصيات دولية بارزة. المفارقة هنا أن تونس وهي تحظى بهذا التكريم بعد زهاء العام والنصف من ثورتها تعيش حاليا أياما عصيبة في علاقة الحكومة بالصحافة والصحافيين.

لم يكن هناك أتعس من هذا التوقيت تدخل فيه الحكومة، وحتى رئيس الدولة، في إشكالات مع الصحافيين وصلت حد أن هؤلاء قاطعوا، من خلال نقابتهم، استشارة وطنية دعت إليها الحكومة بارتجال غريب كما قاطعتها ‘الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام’ التي طالبت عبثا بتأجيلها فضلا عن ذاك الإعتصام لشهرين لأنصار الحكومة أمام مبنى التلفزيون وما صاحبه من تجاوزات . العنوان العريض للأزمة الحالية مع الإعلام اعتقاد الحكومة أن هذا الإعلام، وخاصة العمومي منه، يناصبها العداء حتى أنه بات ‘ثورة مضادة’ في حد ذاته، فيما يرى الصحافيون أن الحكومة تريد الهيمنة على هذا القطاع بالذات، حتى إذا ما استعصى الأمر عليها أرادت خصخصته.

الحكومة تقول إنها لا تريد إعلاما مطبّـلا لكنها تريده مهنيا ومتوازنا لا يبخسها حقها في التعبير عن وجهة نظرها من بين كل وجهات النظر المطروحة وهي تعتقد أن الإعلام في مجمله، لا سيما العمومي منه، بات متحاملا عليها أكثر مما ينبغي. ليكن…لمَ لا يـُـترك الصحافيون يضبطون الإيقاع الصحيح بأنفسهم لأن تدخل الحكومة وتذمرها الدائم من الإعلام لا يمكن أن يفهم إلا على أنه محاولة لتدجين هذا القطاع ولجمه سواء كان هذا هو القصد فعلا أم لا. المشكلة أيضا أن الحكومة ليست هي المؤهلة للأسف لأن تشتكي من تعثر إصلاح الإعلام في وقت لم تتقدم فيه هي كثيرا في أي من ورشات الإصلاح الأخرى في البلاد، لا في الأمن ولا في القضاء ولا في غيرهما، وفي وقت تعيق فيه هي نفسها إصدار القوانين الكفيلة بتنظيم الإعلام وإصلاحه بل وتختلق الأعذار كي لا تكشف قائمة الإعلاميين الذين كان يتعاونون مع الأمن السياسي في عهد بن علي، كما يطالب بذلك كثيرون.

الإعلام في تونس يحتاج بلا أدنى شك إلى إصلاح لكنّ الصحافيين وليس غيرهم هم المدعوون ،عبر الممارسة والخطأ والتصحيح – حتى بمنطق ‘التدافع الاجتماعي’ الذي يبشر به الشيخ راشد الغنوشي زعيم النهضة- إلى الوصول بالإعلام في النهاية إلى حالة استقرار حرفية ومتوازنة ومنصفة بعد سنوات من التسطيح والتدجيل.

لو سألت أي تونسي ما الذي ظفرت به إلى حد الآن من الإطاحة بالرئيس بن علي سيجيب فورا: حرية التعبير والصحافة. التونسيون، أهل مهنة وجمهورا، مستمتعون بذلك وأي طرف سياسي يحاول أن ينغـّص عليهم هذه المتعة طبيعي أن يرد عليه بقسوة وهذا ما حصل فعلا. الإعلام في تونس في حالة من الحرية لم يعرفها أبدا منذ استقلال البلاد عام 1956، لا أحد فوق النقد ولا حتى السخرية من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة إلى قادة الأحزاب إلى الكل تقريبا. هنا من الطبيعي أن الحكومة، أية حكومة، هي التي ستنالها السهام أكثر من غيرها. هذا هو منطق السياسة، وحكومة الباجي قائد السبسي لم تكن بأسعد حظا من حكومة حمادي الجبالي على هذا الصعيد. يفترض أن الحكومة تفخر بذلك ولا تشتكي منه إلى درجة جلبت اهتمام المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة.

تكرار الوزراء باستمرار أنهم حكومة شرعية منبثقة من إرادة شعبية حقيقية أمر مهم لكنه لا يعفيهم من النقد والمساءلة من قبل وسائل الإعلام. العكس هو الصحيح تماما، ثم إذا كانت حكومة مؤقتة لعام واحد أو أكثر قليلا تبدي هذا التبرم من حرية الإعلام فكيف سيكون الحال عندما يصبح لنفس هذه الحكومة أو غيرها تفويض شعبي لأربع أو خمس سنوات بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة؟!! ليس هناك أغبى من سياسي يقرر الدخول في معركة مع الصحافيين لأنه لن يخرج منها منتصرا أبدا.

لقد شبه الرئيس التونسي منصف المرزوقي بلاده حاليا بالسفينة التي تواجه أمواجا عاتية من كل اتجاه وهذا صحيح، لكن الصحيح كذلك على ما قالته صحيفة ‘الغارديان’ ذات مرة: ‘السياسي الذي يشتكي من الصحافة هو كربّـان سفينة يشتكي من البحر’!!

 

بقلم محمد كريشان (القدس العربي)

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.