سرير بروكست: من بدّل دينه فاقتلوه

كان المصنّفون المسلمون في الأديان والفرق والملل قد طوّروا موقفا عقَديّا يتّسم بالتضييق المستمرّ من فُرَص النجاة: الدين الحقّ يُحْصَر في الأديان الكتابيّة، والأديان الكتابيّة تُخْتَزَل في دين الإسلام، ودين الإسلام يُختَزَل في فرقة ناجية ليُحْكَمَ، من ثمّة، على سائر الفرق ” الهلكى ” بالانحراف والشبهة…



سرير بروكست: من بدّل دينه فاقتلوه

 

كان المصنّفون المسلمون في الأديان والفرق والملل قد طوّروا موقفا عقَديّا يتّسم بالتضييق المستمرّ من فُرَص النجاة: الدين الحقّ يُحْصَر في الأديان الكتابيّة، والأديان الكتابيّة تُخْتَزَل في دين الإسلام، ودين الإسلام يُختَزَل في فرقة ناجية ليُحْكَمَ، من ثمّة، على سائر الفرق " الهلكى " بالانحراف والشبهة .

 ولعلّه بسبب من ذلك التضييق المستمرّ، لم أفاجأ، في الأيّام الأخيرة، بخروج أصوات تعتلي منابر مساجدنا لتهدر دماء طائفة من خلق اللّه بجريرة أنّهم قد أحدثوا أو ضلّوا أو ارتدّوا أو أساؤوا إلى المقدّسات ! في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ويشعر فيها المؤمن الخاشع بالأمن والسكينة، يستمع المصلّون سواء في خطب الجُمَع أو في دروس ما بين المغرب والعشاء إلى عرائض إدانة أعدّها، على عجل، بعض المهووسين، يستنفرون بها حميّة الغوغاء لتنفيذ حكم الله بالحدّ والتعزير. صارت دعاوى القتل تلقى على عواهنها ومن كلّ من هبّ ودبّ، ناهيك إذا كانت على المنابر، وكذبة المنبر أو دعوته بَلْقَاء مشهورة

ولئن كان السفهاء – ممّن جاؤوا إلى "دومان الإسلام" متأخّرين – قد رُفع عنهم القلم فلا حرج عليهم ولا تثريب فإنّ من اعتلى المنابر ولا سيما منبر جامع الزيتونة المعمور، معدود من "الراشدين العدول" الذين يؤاخذون بما يقولون وما يستنفرون. أمّا وزارة الشؤون الدينيّة فقد "نصحت" في بعض التصريحات الاستهلاكيّة بمنع دعاة التكفير من الخطابة، غير أنّ قلوب القائمين عليها كانت معنا فيما سيوفهم كانت علينا. والدليل أنّ "الشيخ" الحسين العبيدي قد تحدّى الوزارة أن تأتي لتمنعه من اعتلاء منبر الخطابة في الجامع المعمور. وهو ما لم يفعله الوزير الخادمي الذي كان، بدوره، مشغولا في خطبة جامع الفتح ! الشيء نفسه حصل في المنابر المنتشرة هنا وهناك. والدعوات إلى جزّ الرؤوس مزدهرة. النيابة العمومية (أعني وزارة العدل !) والداخليّة لا تحرّكان ساكنا. لعلّهما تنتظران أن يمرّ بعض المسعورين إلى التنفيذ، ليمسكا به متلبّسا بالجرم المشهود. ومثال الطاهر جاعوت وبختي بن عودة في الجزائر قريب، ومثال فرج فودة ونجيب محفوظ في مصر ليس بالبعيد .

 لقد بلينا بهذا الرهط من "المدعوذين" و"حُطباء اللّيل" الذين لم يغادروا "مُتَرَدّم" الحنابلة ولا "بيان" البغداديّ ولا "ملل" الشهرستاني ولا "هداية حيارى" ابن الجوزيّة أو "اقتضاء صراط " ابن تيميّة، ولا "توحيد" محمد بن عبد الوهاب.. رهط يدّعي ملكيّة حصريّة للحقيقة اللّدنّية والدنيويّة، ولا يرى من دور له إلاّ التضييق على خلق اللّه بتوقيعاته نيابة عن السماء. وليس يصدّه في مسعاه مجافاة النوازل للأحكام التي يستجلبها من عنديّاته ليطرحها على سرير "بروكست" سواء بالتمطيط أو بالتقصير قياسا على الإسبال والتقصير .

 مجسّم لرجم "الزانية المحصنة " ينزلق من احتجاج أخلاقيّ وفنّي على حدّ "شرعيّ" معطّل في أكثر أقاليم "دار الإسلام" – ينزلق إلى إساءة إلى الإسلام نفسه. لوحة لمأدبة حول أصل العالم تتحوّل إلى إيروتيكا مبتذلة تحثّ على الفجور.

بورتريه لوجه آدميّ حانق متعصّب دمويّ يتحوّل إلى إساءة لصورة المسلم. محاكاة ساخرة تقوم على مفارقة بين الكبير والصغير، والمحايث والمتعالي، والمقدّس والمدنّس تتحوّل إلى سخرية من الذات الإلهيّة.. وهكذا دواليك، يتحوّل نقد التعصّب إلى نقد للإسلام بل إلى إساءة إلى المقدّسات الدينيّة .

 ولو وضعنا على هذا السرير عناوين مثل "كتاب التوهّم" و" مفاخرة الجواري والغلمان " و"الأغاني" و"اللزوميات"، و"رسالة الغفران"، و"ألف ليلة وليلة"، وكتب الباه من "نزهة الألباب" إلى "رجوع الشيخ إلى صباه" إلى "نواضر الأيك" إلى "الروض العاطر"، ثمّ بوشرت بالجهد التأويليّ المقرفص ذاته (أعني المقعمز) لاحتيج إلى إعمال التمطيط أو التقصير، وفي كليهما قضاء مبرم على هذه الروائع الفكرية والفنّية العالميّة. وفي المقابل تنقلب "الترضية" المعهودة للصحابة والتابعين جائزة على وجه الإنشاء إن هي صدرت من العبيدي إلى الغنّوشي، بل وتصير التصلية عليه من التونسيّين مندوبة. وتمرّ مرّ السحاب شعوذات وزندقات من قبيل أنّ النبي الأكرم زار أحد المدعوذين في المنام وقال له أبلغ عنّي المؤمنين أن ينتخبوا زيدا أو عمرا. وراقبنا بذهول صورة نشرتها، أخيرا، بعض المواقع المصريّة كتب عليها: محمد مرسي مرشّح الله عزّ وجلّ في أرض الكنانة. ولكنّ سدنة المقدّسات لا يلتفتون لأنّ عين المحبّ عن الأذى كليلة. وحبُّك الشيءَ يعمي ويُصِمّ !   

تهمة "الإساءة إلى المقدّسات" كسرير "بروكست" تشتغل وفق مبدإ لولبيّ لتنتج آلة عمياء من الرقابة: في منطق شعاره أنّ الأصل في الأشياء التحريم لا الإباحة، يصير كلّ شيء – ما عدا كلام المدعوذين – مسيئا للإسلام. ولمّا كان الجهد التأويلي لهذا الرهط يتحرّك ضمن دائرة السرير لا يعدوها، فإنّ المبادرة تكون إلى عرض كلّ شيء على محكّه سواء بالتمطيط (بما يتضمّنه من ليّ أعناق الحقيقة وأطرافها) أو بالتقصير (بما يستدعيه من بتر للأعضاء وانزلاق من معنى إلى معنى) حتّى يصبح مسيئا للإسلام بالتمام والكمال، ويحكم بكفر صانعه أو فاعله أو قائله، ليُستتاب ثلاثة أيّام، ثمّ يقطع عنقه بالسيف الأملح

 ليس المعوّل في ترشيد وإصلاح دينيّيْن ممكنيْن على مثل هؤلاء الذين يعتاشون على فقه القرون الوسطى، ولا يريدون فهما آخر للكتاب والسنّة على غير ما فهمهما به سلف القرون الخوالي. المعوّل على شيوخ اعتدال وتسامح ورحمة، وعلى علماء دين متعدّدي الاختصاصات في العلوم الشرعيّة والإنسانيّة والاجتماعية واللسانيّة والأنتربولوجيّة من أجل القيام بمراجعات لاهوتيّة تصلح دليلا للمسلم "الحزين" إلى مقتضيات القرن الحادي والعشرين .

 ودون هذه المراجعات الكبرى لن يكون هناك حلّ لسرير "بروكست" المعروف لدينا بتهمة "الإساءة إلى المقدّسات" ولا رقيب على تجارة لا تبور اسمها: الإسلام في خطر (ولكنْ ممّن؟).  فاختلافك عن طبقة "الإكليروس" في تأويل مخصوص للنصوص الدينيّة يجعلك في خانة المسيئين إليها. ونقدك لاجتهاد بشريّ تاريخيّ يزعم أنّه سماويّ هو إساءة للّه خالق السماوات والأرض ولرسوله الكريم وصحابته الأخيار المنتجبين. بحسب سرير "بروكست"، فإنّ رسما أو صورة أو مجسّما أو تمثالا يُخرج من الملّة بدليل أنّه "لا يدخل الجنّة مصوّر". وإنّ قُبلة على التلفزيون تعني إشاعة الفحش والفجور، وقصيدة مارقة في ديوان قديم أو حديث لا تعني إلاّ الفسوق. وإنّ كتابا مقروءا منذ دهور سيصير طعما للنار لأنّه جمع بين دفّتيه أخبار العشّاق والهراطقة والدهريّين والصوفيّين والمزدكيّين ..

أنت لستَ مثلي، ولا تشبهني، ولا تفهم فهمي، ولا ترى رأيي، ولا تعتقد اعتقادي، ولا تسير سيرتي، فقد خرجت عن الدين القويم والصراط المستقيم، وحقّ عليك حكم الخروج والردّة، والحديث يقول: " من بدّل دينَه فاقتلوه .." !

حاشية :

"بروكست" قاطع طريق كان يسكن مدينة "كوريدال". كان يصطاد ضحاياه من العابرين على الطريق بين "أثينا" و"إيلوسيس" ليمارس عليهم هوايته في تحديد مقاسات الأجساد. كان لديه سريران أحدهما صغير جدّا والآخر عملاق. فإذا كان المسافر طويل القامة مدّده على السرير القصير، وشرع في تقطيع رجليه ليناسب جسده حجم السرير. وإذا كان من قصار القامة أخذه إلى السرير الكبير ومدّده، ثمّ شرع في تمطيط جسده حتّى يستوي ومقاس السرير. كلتا العمليّتين الساديّتين تسبّبان ألما عظيما ينتهي بالموت الوحشيّ .

 هذه الأسطورة التي ابتدعها الإغريق قبل ثلاثة آلاف عام مازلنا نجد لها معنى وأمثالا ..

 

بقلم: مختار الخلفاوي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.