المثقفون التونسيون والقلق المشروع

المثقفون التونسيون والقلق المشروع



المثقفون التونسيون والقلق المشروع  

 

اطلعت مؤخرا على البيان الذي أصدره المثقفون التونسيون باللغات الرئيسية الثلاث: العربية والفرنسية والانكليزية. وفيه يعبرون عن مخاوفهم من المصير الذي آلت اليه الأمور مؤخرا بعد الثورة. فعلى ما يبدو هناك محاولة للهيمنة على كل مفاصل الدولة من قبل الحزب الأصولي الحاكم. وهناك محاولة للتراجع عن بعض المكتسبات الأساسية التي حققها المجتمع التونسي منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم وليس فقط منذ عهد بورقيبة الليبرالي. ومعلوم أن تونس شهدت أول دستور في العالم العربي منذ عام 1861! ومعلوم أيضا أن قانون الأحوال الشخصية يمنع الطلاق التعسفي وتعدد الزوجات ويعطي للمرأة حقوقا لا مثيل لها في العالم العربي. وهناك هجوم شامل يشنه حزب "النهضة" على رموز الحداثة من شخصيات ومؤسسات. كما أنه يستدعي دعاة متطرّفين من المشرق لبثّ الأفكار الطائفية والعنصرية في البلاد.

فهل تونس المثقفة بحاجة الى "محاضرات" الشيخ وجدي غنيم لكي تتنوّر وتتحضّر؟ شيء عجيب !

 
بالأمس القريب كان يشمت "بهلاك" البابا شنودة ويعتبره "رأس الكفر" محرضا بذلك على الفتنة الطائفية في مصر. فهل أصبح فجأة قدوة أو نموذجا يحتذى؟ ليعذرني قادة الحركة في تونس:

 يحرجني أن أنتقدهم في الوقت الذي يهاجمهم فيه أيمن الظواهري. ولكن هو يلومهم لأنهم ليسوا ظلاميين بما فيه الكفاية وأنا ألومهم لأنهم ليسوا مستنيرين بما فيه الكفاية. ليحاسبني الله على ما سأقوله الآن اذا كنت ظالما. شخصيا أصبحت أتردّد في تسمية حزبهم بحزب "النهضة" لأنّ كلمة نهضة ذات رنين خاص في اللغة العربية بل وحتى في اللغات الاجنبية.

 انها تعني التطلع الى المستقبل لا العودة الى الماضي. انها تعني في اللغات الأجنبية احداث القطيعة مع ظلاميات العصور الوسطى المسيحية. وبالتالي فهي لا تنطبق اطلاقا على الأحزاب الأصولية العربية التي تريد العودة الى العصور الوسطى الإسلامية وليس القطيعة معها. ينتج عن ذلك أن السطو على هذا المفهوم الشهير خلق بلبلة فكرية وفوضى معنوية بل وقلب الأمور عاليها سافلها. لم نعد نعرف معنى الكلمات. حتى اللغة أصبحت معكوسة! كان يمكن أن يسمّوا أنفسهم حزب العدالة والتنمية التونسي. لا يمكن لكلمة "نهضة" أن تنطبق على تأويل إخواني أو سلفي قديم للإسلام.

 بالمقابل يمكن أن تنطبق كل الانطباق على التأويل التجديدي المستنير للدين الحنيف والقرآن الكريم. وهو التأويل الذي ساهم فيه المثقفون التونسيون الى حدّ كبير.

 نذكر من بينهم بعض الموقّعين على هذا البيان بالذات: كعبد المجيد الشرفي، ورجاء بن سلامة، ومحمد شريف فرجاني، وفتحي بن سلامة، وآخرين. هذا دون أن ننسى عبد الوهاب المؤدب الذي ذهب الى أبعد حد ممكن في الدراسة التنويرية الداخلية للتراث العربي الإسلامي. وكانت جرأته محط اعجاب الكثيرين في الغرب والشرق. وحققت كتبه المتتالية رواجا ملحوظا وألقت إضاءات ساطعة على الاشكالية الكبرى التي تؤرقنا وتؤرق العالم كله من حولنا.

 فقد عرف كيف يشخص بشكل دقيق طبيعة المرض الذي أصبنا به دون أن ندري(انظر "مرض الإسلام" والكتب الاربعة التي تلته تباعا). كما وعرف كيف يصالح بين الأنوار العربية والأنوار الاوروبية أو قل: عرف كيف يجد نقطة التقاطع بينهما والحلقة المفرغة الضائعة. انه يبرع في ذلك كل البراعة بفضل اطلاعه الواسع على تراثنا الإسلامي العريق من جهة، وعلى التراث المسيحي فالعلماني الاوروبي من جهة أخرى.

انه مسكون بكلتا التجربتين والهمّين. من هنا خصوبة كتبه وعمقها الفكري الناتج عن تبنيه للنظرة المقارنة التي توسع الآفاق والعقول. من لا يعرف لغتين أو ثقافتين على الأقل ليس مثقفا حتى ولو كان عبقريا! وبالتالي فعبد الوهاب المؤدب نتاج ناجح لكلا التراثين الكبيرين المتقابلين على كلتا الضفتين. نقول ذلك وبخاصة أنه ابن أحد مشائخ الزيتونة الشهيرة.

 ومعلوم أن أبناء المشائخ هم الذين ينجحون أكثر من غيرهم في نقد الانغلاقات الدينية والمذهبية لأنهم يعرفونها من الداخل جيدا ويعانون منها أكثر من سواهم. ألم يكن نيتشه ابن قس بروتستانتي؟ من يصدق ذلك؟ وحتى فولتير كان ذا تربية يسوعية كاثوليكية متزمتة في طفولته قبل أن ينقلب عليها لاحقا. وأي انقلاب! وقس على ذلك معظم فلاسفة التنوير الاوروبي. كلهم تعرضوا لتربية دينية صارمة في طفولتهم.

كلهم خرجوا من معطف الدين والتزمت الأصولي المسيحي أو اليهودي. لنتذكر المسكين سبينوزا الذي فصلوه من الطائفة ولعنوه لاهوتيا لعنة لا تحول ولا تزول. ثم حرموه من الميراث العائلي بل وحاولوا تصفيته جسديا. لا أحد يمزح مع التعصب الديني!..ولكن لولا ذلك هل كان سيتحفنا برائعته الخالدة: مقالة في اللاهوت السياسي؟ ينبغي أن تعاني من هذه الأشياء في طفولتك الأولى لكي تعرف كيف تتحدث عنها أو تخرج منها :

لا يعرف الحب إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
هذا الكلام لا يعني اطلاقا انكار عظمة التيار الإسلامي التونسي أو العربي العريق بمجمله. فالواقع أنه توجد لدى العديد من عناصر هذا التيار الضخم والمحترم رغبة حقيقية في التصالح مع الحداثة والعصر.

وكنت أنا شخصيا قد أشدت بالربيع التونسي وتفاءلت به على عكس الربيع العربي الآخر باستثناء الربيع المغربي. وعللت ذلك باستنارة الأصولية التونسية قياسا الى الأصوليات العربية الأخرى. فهي مثقفة أكثر من الأصولية المصرية مثلا وأكثر انفتاحا على العالم.ولكن هل هي بحاجة الى دعاة التخلف لكي يبثوا ظلامياتهم فيها؟ ونحن نجد لدى الأستاذ الغنوشي أحيانا تصريحات جميلة وعديدة تمشي في هذا الاتجاه العقلاني. أذكر من بينها قوله بأن العلمانية ليست الحادا بل ترتيبات اجرائية لضمان الحرية(الشرق الأوسط.5 مارس 2012).

وأذكر قوله:العلمانية لا تتعارض مع الإسلام.. وبالتالي فالرجل يبذل جهودا لا يستهان بها من أجل المصالحة بين الإسلام والحداثة على عكس معظم مشائخ المشرق والمغرب.

 وأعتقد أن هذا الموضوع يهمه فعلا. فلماذا لا يضع حدا لتجاوزات المتطرفين والسلفيين الذين يهددون الحريات العامة ويقلقون الناس في تونس حاليا؟ لماذا لا يطبق عمليا ما يؤمن به نظريا؟ هل أردوغان أفضل منه؟ هو مثقف أكثر من أردوغان! أعتقد شخصيا أنه يخشى اغضاب التيار المتشدد في قاعدته الشعبية. وربما كان يخشى أيضا اغضاب التيارات المحافظة جدا في منطقة الخليج العربي والتي تكره كلمة الحداثة كره النجوس وتخلط بينها وبين الكفر.

أنت حداثي أو علماني فإذن أنت كافر أو ملحد! نقطة على السطر.لا نقاش!..العالم العربي لا يناقش.المسلمون لا يناقشون ولا يضيعون وقتهم في مثل هذه السخافات المستوردة من أوروبا.

كيف يناقش من ختم العلم وامتلك الحقيقة المطلقة مرة واحدة والى الأبد؟ ولذلك فالأستاذ الغنوشي تارة ينفتح وتارة ينغلق طبقا للظروف والمنعطفات والضغوطات. في الواقع أن المسألة أكبر منه ومنا جميعا.أقصد بأن الظرف التاريخي الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية والإسلامية صعب للغاية على كافة الأصعدة والمستويات: من اقتصادية واجتماعية وفقر وأمية وتزايد سكاني هائل لا تستطيع الدولة بإمكانياتها المتواضعة أن تؤطره أو تلبي حاجياته.

ولا أعتقد أن المسألة ستحل قبل أن ينتصر التفسير المستنير للإسلام على التفسير القديم الموروث: أي قبل أن ينتصر تفسير عبد المجيد الشرفي وأركون وعبد الوهاب المؤدب على تفسير الشيخ القرضاوي وكل الإخوان المسلمين. صراع المستقبل "صراع تفاسير" أيها السادة كما يقول الفيلسوف بول ريكور. بمعنى:هل سينتصر التفسير العقلاني الجوهراني الروحاني العميق للإسلام على التفسير الإخواني الحرفي الانغلاقي التوتاليتاري أم لا؟
هل سينتصر ابن رشد على الغزالي،أو ابن عربي على ابن تيمية،أو طه حسين على حسن البنا؟ هل ستنتصر الأنوار الإسلامية على الانغلاقات الإسلامية؟ هذا هو السؤال، والباقي تفاصيل. ثم ينبغي أن يترسخ هذا التفسير الجديد المنقذ في برامج التعليم ويعمم على كل مدارس العالم العربي من الابتدائي وحتى الجامعي.

ينبغي أن نتصالح مع أنفسنا أخيرا! ومع العالم أيضا! وهذه عملية ضخمة سوف تستغرق عدة أجيال. من هنا الاستعصاء التونسي وغير التونسي. نريد كل شيء دفعة واحدة والواقع لا يستطيع أن يتجاوب معنا، لا يستطيع أن يعطي أكثر مما يعطيه. جماهيرنا تريد رجال الدين والذنب ليس ذنبها. وراءها ألف سنة من عصور الانحطاط والظلام. من يستطيع أن يقاوم ألف سنة متراكمة فوق بعضها البعض كالبنيان المرصوص؟  

ربما كان الشيخ القرضاوي كثيرا علينا! ربما كانت "أنوار" الشيخ وجدي غنيم أكبر منا! فما بالك بالفيلسوف الكبير طارق رمضان؟ نريد اللحاق بركب الحضارة بسرعة صاروخية ولكن الحضارة لا تعطي نفسها بسهولة. انها كالغادة الحسناء، مهرها غال.عفوا لهذا التشبيه الذي خرج عن دائرة السيطرة! الوعاء ينضح بما فيه. ماذا تريدون أن تعطيه مجتمعاتنا في الحالة الراهنة للأمور؟ أصغر شيخ في أصغر قرية أهم من أكبر مثقف في تونس أو دمشق! وكلامه معصوم..هذه حقيقة. يكفي أن يتمتم ببعض التسبيحات والبسملات حتى يغلبك في أول مناظرة تلفزيونية، بل ويقضي عليك بالضربة القاضية! أعتقد شخصيا أن جيلنا لوحده عاجز عن تحقيق هذه المهمة العظيمة بل ولا حتى الجيل الذي سيليه.ربما كنت مخطئا.أرجو أن أكون مخطئا ..

وأخيرا سوف أقول بأن بيان المثقفين التونسيين عن مستقبل الديمقراطية وآفاقها يخصنا جميعا نحن العرب والمسلمين لأن تونس أصبحت مختبرا لكل العرب. فالجدلية الصراعية الخلاقة الجارية حاليا بين التيار الليبرالي التحديثي والتيار الإسلامي التقليدي هي جدليتنا كلنا وسنمر بها جميعا شئنا أم أبينا.

 وسندفع ثمنها عدا ونقدا.لا بد مما ليس منه بد. ولكن مرحليا، وبانتظار حصول الحسم النهائي التنويري الكبير، لا بد من تسويات براغماتية مؤقتة. لا بد أن يقدم كل طرف بعض التنازلات للطرف الآخر لكي نتوصل الى المصالحة التاريخية بين شطري الأمة:أي الشطر الإسلامي والشطر اللائكي العلماني.

من يتذكر الآن ذلك الرائد الكبير محمد الشرفي صاحب كتاب: الإسلام والحرية؟ متى سيتعانق الإسلام مع الحرية كما كان عليه الحال في العصر الذهبي المجيد من تاريخنا؟ متى سينتهي سوء التفاهم التاريخي الذي استمر طيلة العصور الانحطاطية؟ هذه هي بعض التساؤلات التي أثارها في نفسي بيان المثقفين التونسيين .

 نعم فانه بناء على نجاح التجربة التونسية أو فشلها يتوقف أيضا مصير العرب الآخرين أو قل انتفاضات الربيع العربي الأخرى. قد يقولون:ولكن هذا الكلام ينطبق بالدرجة الأولى على الشقيقة الكبرى: مصر…ربما. ولكن يخطئ من يستهين بتونس وتجربتها الرائدة ليبراليا كان أم إسلاميا .

 

 

بقلم هاشم صالح

 

 

 

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.