لا توجد سلطة قادرة على حرمان التونسيين من حقهم في صحافة حرة.. مثل بقية أحرار العالم

لم أكن أتصور أن تبلغ محاولات إفشال عملية إصلاح الإعلام ذروتها في وقت يجلس فيه قياديان سابقان في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ومدير صحيفة وسجين سياسي سابق على كراسي رئاسات الجمهورية والمجلس التأسيسي والحكومة

 لا توجد سلطة قادرة على حرمان التونسيين من حقهم في صحافة حرة.. مثل بقية أحرار العالم

 
 

لم أكن أتصور أن تبلغ محاولات إفشال عملية إصلاح الإعلام ذروتها  في وقت يجلس فيه قياديان سابقان في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ومدير صحيفة وسجين سياسي سابق  على كراسي رئاسات الجمهورية والمجلس التأسيسي والحكومة، لأن هؤلاء الرجال الثلاثة الذين جمعتني بهم علاقة صداقة أيام الشدة عانوا الكثير من آثار تكميم الصحافة ويعلمون ما خسرته تونس في شتى المجالات بترهيب الصحفيين وتجريم حرية التعبير.

 

ويعرف المطّلعون على أوضاع الصحافة وحقوق الانسان أن مسلسل محاولات إفشال عملية إصلاح الإعلام، انطلق قبل عدّة أشهر من فوز حركة النهضة بقصب السبق في انتخابات 23 أكتوبر 2011، بسهام طائشة صوبها البعض نحو الهيئة الوطنية لاصلاح الاعلام والاتصال لخدمة أغراض شخصية أو تكتلات مصلحية أو حماية امتيازات مشبوهة تحصل عليها البعض الآخر في عهد الرئيس السابق وأصهاره أو لمجاملة أصحاب النفوذ الجدد .

 

لكن لسوء حظّ مصوبيها فإن هذه السهام الطائشة  أساءت قبل كل شيء لسمعتهم داخل تونس وخارجها ولم تزد أعضاء الهيئة إلا إصرارا على مواصلة المهام التي أوكلت اليهم بمقتضى المرسوم عدد 10 لسنة 2011 .

 

إن ما يبعث حقا على الحيرة اليوم أن أكثر الرؤساء الثلاثة  نفوذا وأقربهم الى المهنة الصحفية – بحكم إدارته لصحيفة "الفجر" قبل احتجابها واعتقاله في عام 1991 وعلاقته الطويلة  ببعض المنظمات الدولية المدافعة عن حرية الصحافة- وهو السيد حمادي الجبالي- كان أول من وعد قبل تقديم برنامج حكومته للمجلس الوطني التأسيسي في ديسمبر 2011 بالعمل من أجل أن يكون لتونس إعلام حرّ وتعددي وملتزم بالمعايير الدولية لحرية التعبير، مثلما هو الشأن في الدول  الديمقراطية .

 

لكن للأسف لم تمض أكثر من ثلاثة  أسابيع  على هذا الوعد الذي أكده لي شخصيا السيد حمادي الجبالي أكثر من مرّة حتّى فوجئ الرأي العام عشية يوم السبت 7جانفي 2012 بإعلان رئاسة  الحكومة عن تعيين رؤساء مديرين عاميين لثلاث مؤسسات إعلامية عمومية بدون سابق تشاور مع الجهات المعنية وبنفس الطريقة الخالية من الالتزام بقواعد الحوكمة الرشيدة والشفافية التي كان يعتمدها الرئيس السابق وغيره من قادة الأنظمة الاستبدادية الذين يؤثرون  الولاء على الكفاءة عند اختيار موظفي الدولة .

 

 ولم تكتف رئاسة الحكومة باعتماد هذا الأسلوب الاعتباطي في تعيين الرؤساء المديرين العامين لوكالة تونس إفريقيا للأنباء والتلفزة التونسية والشركة الجديدة للطباعة والصحافة والنشر التي تصدر صحيفتي "لابراس" و"الصحافة"، بل عبرت خطا أحمر -لم يتمّ عبوره في تونس منذ الاستقلال  بفرضها مدير تحرير على التلفزة التونسية ورئيسي تحرير على"لابراس" و"الصحافة".

 

وقد وعد رئيس الحكومة الهيئة الوطنية لإصلاح الاعلام والاتصال، غداة الوقفة الاحتجاجية بساحة القصبة يوم 9 جانفي التي دعت لها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين للتنديد بهذه القرارات والتدخل في الشؤون الداخلية للمؤسسات الاعلامية العمومية، بفتح باب التشاور والحوار والاستفادة من التجارب الدولية في مجال إصلاح الإعلام وتجنب القرارات الخاطئة والمخيبة للآمال .

 

كما عبر السيد حمادي الجبالي في نفس اللقاء، الذي تمّ بطلب منه، عن استعداده لتبادل الرأي بشأن التوصيات العاجلة لاصلاح الاعلام، التي وجهتها الهيئة في نهاية شهر ديسمبر له وللرئيسين المرزوقي وبن جعفر ولأعضاء المجلس الوطني التأسيسي ومن بينها ضرورة الاسراع باصدار النصوص التطبيقية للمرسومين 115 و116 المنظمين للصحافة المكتوبة والالكترونية والاعلام السمعي والبصري .

 

لكن  مرّة أخرى، سرعان ما بينت الأيام أنّ هذا الوعد لا يختلف عن سابقه المتعلق بالتزام رئيس الحكومة بالعمل من أجل ضمان  حرية الاعلام وتعدديته واعتماد المعايير الدولية لحرية التعبير وأنه سيبقى مجرد كلام معسول يفتقر الى حدّ اليوم للتطبيق .

 

ومع مرور الأشهر، يخال المرء أن هناك جهات تعمل في الخفاء من أجل أن تظلّ وعود رئيس الحكومة حبرا على ورق وأن من بين أولوياتها في مرحلة "الانتقال الديمقراطي" غزو المؤسسات الإعلامية العموميية وإجبار أصحاب المؤسسات الإعلامية الخاصّة وجلّ الإعلاميين على دخول "بيت الطاعة" في أقرب وقت ممك.

 

 ويحق لأيّ مواطن أن يتساءل: هل من باب الصدفة تزامن غلق باب الحوار مع الجهة المكلفة قانونا بتقديم تصوّر لإصلاح الإعلام، وهي الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال، وتشديد الحصار والاعتداءات على العاملين بالتلفزة التونسية والتهديد بخصخصة هذا المرفق العام الموجود نظيره في كل الدول الديمقراطية، واعتماد  مستشاري رئيس الحكومة على بعض مهندسي سياسة التضليل أيام بن علي ومناشديه البقاء في السلطة لاتمام "مشروعه الحضاري" لتنظيم ما سمي بـ"الاستشارة الوطنية للاطار القانوني للاعلام" يومي 27 و28 أفريل.

 

والجواب طبعا يكون بالنفي، لأن العديد من الدلائل تشير إلى أن غلق باب الحوار والاعتداءات على التلفزة الوطنية والتهديد بخصخصتها وتنظيم استشارة "وطنية" قاطعتها الهيئة الوطنية لإصلاح الاعلام والاتصال والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين لأن أساسها غش وتضليل، مثل "الاستشارات الوطنية" في عهد "صانع التغيير" تبدو وكأنها جزء من استراتيجية تهدف إلى إفشال عملية إصلاح الإعلام وفرض هيمنة جديدة على كامل الفضاء الإعلامي  قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة وربما بعدها، أن شاءت الأقدار واستمر تشتت المؤمنين بحق التونسيات والتونسيين في تشييد نظام ديمقراطي باتم معنى الكلمة .

 

وكيف يفسر أي عاقل، على سبيل المثال، لجوء بعض مستشاري ومساعدي رئيس الحكومة  إلى غلق باب الحوار مع الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وتعدد تصريحاتهم المتناقضة مع ما وعد به السيد حمادي الجبالي ودعمهم، بالتنسيق مع بعض القياديين الضيقي الصدر في حركة النهضة والميالين إلى "تخوين" من يختلف معهم في الرأي،  للأقلية المعارضة للمرسومين 115 و116، علما أن جلّ مكونات هذه الأقلية معروفة لدى القاصي والداني  بولائها للرئيس السابق أو بعملها على إذكاء التفرقة بين الإعلاميين وإضعاف هياكلهم المهنية وإعلاء طموحاتها الشخصية فوق المصلحة العامة .

 

وقد وصلت الحملة التضليلية بشأن هذين  المرسومين اللذين تم إعدادههما قبل صدورهما في الرائد الرسمي في 4 نوفمبر 2011 -بعد استشارة واسعة مع المهنيين والنقابيين والعديد من الخبراء والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية لم يسبق لها مثيل في تاريخ تونس-  إلى حدّ إثارة موجة كبيرة من الشك بسبب تعاطف العديد من أصحاب  المؤسسات الإعلامية الخاصة مع الأقلية المعارضة خاصة للمرسوم 116 الذي ينص على احداث هيئة تعديلية مستقلّة للاتصال السمعي والبصري .

 

ويبدو أن من بين الأسباب التي دفعت الحكومة والأغلبية الداعمة لها في المجلس الوطني التاسيسي للحيلولة دون  تطبيق المرسوم 116 إلى اليوم إتاحة الفرصة لبعض نشطائها وأصدقائها لبعث محطات إذاعية وتلفزية خارج نطاق القانون الذي لا يسمح لحركات سياسية أو دينية بذلك. فمن بين المحطات التلفزية التي أطلت على المشاهدين التونسيين دون سابق استئذان من الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري  المنتظر احداثها منذ حوالي تسعة أشهر، تلفزيون "الزيتونة" الذي يديره الشاب أسامة بن سالم عضو مجلس الشورى في حركة النهضة ونجل وزير التعليم العالي"المنصف بن سالم".  وقد كسب هذا التلفزيون الذي لم يتجاوز بعد مرحلة البث التجريبي سبقا صحفيا نتيجة علاقاته الوطيدة بأعلى مراكز القرار وبانحيازه الواضح لحركة النهضة .

 

وتمثل هذا السبق في إجراء حديث مخالف لقواعد المهنة الصحفية وأخلاقياتها مع آخر رئيس وزراء للعقيد معمر القذافي في سجنه بطرابلس. وأعاد هذا الحوار إلى الأذهان الاستجوابات البوليسية على شاشة التلفزة للمعارضين السياسيين، حيث  لا يظهر  "الصحفي" على الشاشة ويعترف المستجوب المسجون بأخطائه ويتحدث عن "العناية الفائقة" التي وفرها له سجانوه، مثلما جاء على لسان البغدادي المحمودي الذي أثار تسليمه الى السلطات الليبية في جوان الماضي أزمة حادة بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية وموجة من الاحتجاجات في الأوساط الحقوقية المحلية والدولية .

 

 ومن غرائب الأمور بعد الانتخابات الحرّة والشفافة لأعضاء المجلس الوطني التأسيسي أن يفاجأ المرء بأنّ دائرة التشاور بشأن مشروعي المرسومين 115 و116 في ظلّ سلطة انتقالية فاقدة للشرعية الشعبية كانت أوسع وأشمل بكثير مما حدث من تشاور حول ما أوردته وسائل الاعلام يوم 4 جويلية 2012 من حصول اتفاق داخل لحنة الهيئات الدستورية على الفصل الخاصّ بإحداث "هيئة مستقلة للاعلام"! ويعسر على أيّ مراقب أو باحث نزيه أن يفهم كيف يمكن للمجلس الوطني التأسيسي الذي تسيطر على أغلبية مقاعده حركة النهضة وحليفيها أن ينتخب "هيئة مستقلة للاعلام" متكوّنة من تسعة أعضاء. اللهم إلا إذا أصبحت كلمة "مستقل" قابلة للتكيف أو عباءة يمكن أن يرتديها من يشاء .

 

وقد جاء هذا الإعلان المفاجئ عن إحداث "هيئة مستقلة للاعلام " بعد سويعات من إعلان الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال عن تجميد نشاطها بسبب غياب أيّة خطوة أو مبادرة ايجابية من جانب الحكومة على طريق إصلاح الإعلام. ويخشى جل الإعلاميين أن يلعب المولود المنتظر الدور الرقابي والتضليلي الذي تلعبه وزارات الإعلام في الأنظمة الاستبدادية. خاصّة وأنّ المشرعين الجدد أوكلوا له مسؤولية  تنظيم كامل قطاع الاعلام و"تعديله"، بعد أن غاب عنهم ما شرحته  لهم الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال في الشهر الماضي وما أوردته في تقريرها العام من أن تعديل الصحافة المكتوبة شأن تقرره وتمارسه الهيئات التي تمثل الصحفيين وأصحاب الصحف ويشار اليه بـ"التعديل الذاتي".

 

وتزداد دواعي الاستغراب أمام إصرار أصحاب القرار  السياسي الجدد على تصوّر حلول لإصلاح الإعلام دون الاستئناس بالتجارب الأجنبيّة الناجحة ودون الاطّلاع على التقرير العام للهيئة الوطنيّة لإصلاح الاعلام والاتصال الذي صدر في شهر أفريل الماضي ويعدّ وثيقة مرجعيّة، حسب العديد من الراسخين في البحث العلمي والمطلعين على تجارب إصلاح الإعلام في مختلف أنحاء العالم. وتضمّنت هذه الوثيقة التي شارك في إعدادها خبراء ومهنيون تشخيصا لواقع المشهد الإعلامي وشرحا لمزايا الأطر القانونيّة الجديدة وتوصيات يمكن أن تساهم في الرفع من مستوى أداء المؤسسات الإعلامية وتطوير مهارات العاملين فيها .

 

 وتحث بعض هذه التوصيات على إحداث آليات  وضبط معايير لاختيار مديري المؤسسات الاعلامية العمومية تقطع مع مسلسل التعيينات على أساس الولاء والمحسوبية الذي لم يتوقف منذ شهر جانفي الماضي. ولم تستهدف هذه التعيينات الاعتباطية المؤسسات الإعلامية العمومية فقط، بل شملت كذلك المؤسسات الاعلامية  التي كان يملكها  عدد من أفراد أسرة الرئيس السابق .

 

ليس من العدل الادعاء بأن السلطة الجديدة هي المسؤولة الوحيدة على الأمراض التي تنخر قطاع الإعلام والاتصال والأخطار النامية والمحدقة به. فقد وثقت الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال على سبيل المثال العديد من الأخطاء المهنية والانتهاكات الفادحة لأخلاقيات المهنة الصحفية والادعاءات المخجلة في قضية إصلاح الإعلام الصادرة عن بعض الصحفيين وحتى الباحثين في مجال الاعلام!  

 

يتحمل الرؤساء الثلاثة وأصحاب القرار في المجلس الوطني التأسيسي مسؤولية كبيرة فيما يحدث منذ بداية السنة  من محاولات لإفشال عملية إصلاح الاعلام وإدخال الإعلام العمومي من جديد إلى "بيت الطاعة" وترهيب الصحفيين والمدونين وضرب عدد منهم وسجنهم وتجريم حرية التعبير، مما دفع العديد من المنظمات المهنية والحقوقية التونسية والدولية إلى إطلاق صفارة الخطر. كما يتحمل بعض الصحفيين والجامعيين الذين مدوا يد المساعدة لرموز السلطة الجديدة والتكتلات المصلحية في مجال الإعلام التي ترعرعت في ظلّ الولاء للسلطة المطلقة السابقة قسطا من هذه المسؤولية .

 

 وما لجوء الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال في بداية الشهر الماضي إلى الإعلان عن قرارها بتجميد نشاطها ورفضها للدور الصوري و"الديكوري" التي تريد السلطة فرضه على أعضائها إلا رسالة عاجلة مفادها أنه لا يمكن لأية حركة أو سلطة  أن تحرم التونسيات والتونسيين من التمتع بنفس الحقوق الأساسية ومن بينها الحق في صحافة حرة وتعددية، مثل بقية أحرار العالم، إذا وقفت مكونات المجتمع المدني متضامنة ومدافعة عن هذه الحقوق .

 

بقلم: كمال العبيدي (رئيس الهيئة الوطنية لإصلاح الاعلام والاتصال سابقا)

 

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.