فزّاعات وشمّاعات!

كان للأمور أن تبدأ بشكل مغاير. بعد أن أفصحت الصناديق عن أسرارها (المعلومة مسبقا)، يتنادى الجميع تحت سقف وطني واحد للخوض في استحقاقات المرحلة القادمة. سيكون للفريق المتقدّم أفضليّة انتخابيّة لكي يتحمّل مسؤولية أدبيّة أكبر في تدبير الاختلاف الطبيعيّ حتّى الخروج بحكومة وطنيّة قائمة على الوفاق قدر …



فزّاعات وشمّاعات!

 

كان للأمور أن تبدأ بشكل مغاير. بعد أن أفصحت الصناديق عن أسرارها (المعلومة مسبقا)، يتنادى الجميع تحت سقف وطني واحد للخوض في استحقاقات المرحلة القادمة. سيكون للفريق المتقدّم أفضليّة انتخابيّة لكي يتحمّل مسؤولية أدبيّة أكبر في تدبير الاختلاف الطبيعيّ حتّى الخروج بحكومة وطنيّة قائمة على الوفاق قدر المستطاع، ليس فيها أثرة ولا إستئثار، ولا حيف أو جور. ولكنّنا أمسينا فأصبحنا على قسمة ضيزى استأثر فيها حزب واحد بالمسؤوليّات الكبرى والرئيسيّة، وضخّ أنصاره وشيعته في أجهزة الدولة، وترك لشريكيْه الفضلة والفتات. وقال للآخرين: موتوا بغيظكم، قد بلغنا سدرة المنتهى.

 

يوما بعد يوم، يتراجع لدينا حديث عن "الانتقال الديمقراطي" ألفناه قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011. ويوما فيوما بدأ يترسّخ لدينا أنّنا مقبلون على ديكتاتوريّة من لون آخر. وكأنّ قدر التونسيّين أن يثوروا على الاستبداد ليستبدلوه بآخر أشدّ فتكا لأنّه استبداد يتدثّر بعباءة الدين.

 

وكنّا قد كتبنا مرّة عن خطّة ثلاثيّة الأبعاد تتوسّلها الآلة الإعلاميّة لحكومة النهضة (نعم ودع عنك خدعة الترويكا) وترسانتها الدعائيّة تقوم على الشيطنة. شيطنة الخصوم بتبديعهم وإخراجهم من الملّة. وهذا هو التكفير دينيّا. ثمّ شيطنة الآخرين باتّهامهم –لأنّهم يختلفون مع مشروع النهضة – بأنّهم فلول النظام السابق ويخدمون أجندا التجمّع المنحلّ. وهذا هو التخوين سياسيّا. والحركة الثالثة شيطنة المخالفين وإقصاؤهم عبر ترويعهم أو تخويفهم أو تعنيفهم. وهذه هي التصفية الجسديّة.

 

وخلُصنا إلى أنّ استيفاء هذه الخطّة الثلاثيّة يعني أنّ الحَجْر قد أطبق على عقول التونسيّين، وأنّ الرقابة والرقابة الذاتيّة خصوصا قد سرتا فيهم، بما ينذر بالوقوع في وهدة الاستبداد والرأي الواحد والحزب الأحد. ونعود إلى ما قبل 14 جانفي 2011 بل إلى أشدّ منه وأسوأ، فإذا كان الاستبداد النوفمبري يهَب معارضيه "شرف" نيل مرتبة المناضلين في عيون الشعب فإنّ أيّ ديكتاتوريّة ناشئة – كما أنبأ سبقُ لسان مشهور- ومتى تزيّت بلبوس الدين لا تطحن معارضيها فحسب، ولكنّها تسلبهم ذلك الشرف أيضا. ولن يكون مُعارض حزب النهضة كما ستشتغل عليه الآلة الدعائيّة إلاّ كافرا خارجيّا عدوّا للّه والأمّة. إنّ معارضة "النهضة" ليست من فعال ذوي الألباب لأنّها – كما قال السيّد الغنّوشي في خطبة الجمعة الماضية – تعني معاداة الإسلام. ومن كان خصيمُه اللّه فليبشرْ باللّعنة في الدنيا وبالشقاء في الآخرة!

 

وهكذا كانت حلقات العنف التي طالت الأبعدين والأقربين تتمّ تحت سمع الحكومة وبصرها خدمة لهذه الخطّة الساسانيّة بامتياز، ولتؤكّد في آن واحد لكلّ مرتاب بأنّ تدبيرا كهذا لا يعكس البتّة أهليّة سياسيّة ولا كِفاية انتقاليّة لدى من رشّحتهم الصناديق – في ظروف مخصوصة – لقيادة هذه المرحلة التي من المفروض أن تكون انتقاليّة لا انتقاميّة اغتناميّة..

 

يذكر التونسيّون عبارة لاكتها الألسن في وقت سابق لتًلقى، كلّ حين، في وجوهنا: فزّاعات.. فزّاعات! فحوادث الترويع فزّاعات. وأعمال التعنيف فزّاعات. والدعوات إلى الفتنة والقتل فزّاعات. والميليشيات التي تسعى إلى بسط نفوذها على الدولة وعلى حياة المواطنين فزّاعات. والمجموعات المتطرّفة والمتعصّبة التي "كُتِب عليها القتال " فطفقت تجري تدريبات على قتال المخالفين والاستعداد ليوم قريب هي مجرّد فزّاعات. فزّاعات.. مجرّد فزّاعات للتخويف من الحملان الوديعة وروادفها الدعوية والسلفيّة.. هذا وجه من سياسة المرحلة. أمّا قفاها فهو الشمّاعات.

 

تقوم "نظريّة" الشمّاعات على التنصّل الدائم من مسؤوليّة ما يجري وما يحدث من انقضاض وحشيّ على إرادة التونسيّين في حياة حرّة كريمة، وتعليق كلّ فشل للحكومة في قيادة الانتقال نحو الديمقراطيّة على شمّاعة التجمّع وفلول النظام السابق. حوادث العنف والإرهاب والترويع وراءها فلول النظام السابق. غزوات السلفيين المتعصّبين وراءها منحرفون مأجورون من فلول النظام السابق. استعادة الفساد الإداري لأنفاسه وراءه فلول النظام السابق. انقطاع الماء والكهرباء وراءه فلول النظام السابق. غلاء الأسعار وتراجع المقدرة الشرائيّة للمواطن وراءه فلول النظام السابق. تراكم الأوساخ وتهديدها بأوبئة خطيرة وراءه فلول النظام السابق.

 

حوادث التحريق والتخريب والكوليرا والطاعون وراءها فلول النظام السابق. اتّساع فضاءات الرفض والعصيان لسياسة "النهضة" في الالتفاف على مطالب الثورة في سيدي بوزيد والمناطق المهمّشة والمحرومة وراءها فلول التجمّع والنظام السابق.

 

يقول وزير الشؤون الدينيّة السيّد نور الدين الخادمي إنّ أعمال "الشغب الدينيّ" في بيوت اللّه بما فيها جامع الزيتونة المعمور وراءها فلول النظام السابق. ويردّ عليه الشيخ حسين العبيدي إمام جامع الزيتونة (رغم أنف الجميع) بأنّ عزله من الإمامة وتنصيب إمام جديد وراءه فلول التجمّع والنظام السابق بمن فيهم الوزير نفسه والإمام الجديد (الأستاذ محمّد بوزغيبة)!

 

جميع المصائب التي ألمّت بنا والتي ستلمّ بنا في المستقبل إن شاء اللّه تعلّق على شمّاعة التجمّع وفلول النظام السابق.

 

سياسة الفزّاعات والشمّاعات هي ما تبقّى لحكومة ورثت خيارات التجمّع والنظام السابق، واستقطبت إلى صفوف أنصارها قواعد التجمّع، وألّفت قلوب إطاراته الإداريّة والإعلاميّة والسياسيّة والماليّة!

 

حلّ سهل وتجارة رابحة لا تتطلّب إلاّ أصلا تجاريّا دينيّا ليصدّقك الناس، وتنتصب على بركة اللّه مناديا في سوق السياسة: أزلام.. فلول.. فزّاعات.. شمّاعات!

 

بقلم: مختار الخلفاوي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.