ضد التيار في تونس: قوة ثالثة جديدة صعبة ولكنها ممكنة

يبدو الوضع السياسي في تونس كأنه يعيش استقطابا ثنائيا بين حزبي النهضة من ناحية و”نداء تونس” من ناحية ثانية وإن أخطر ما في هذا الوضع كونه يبدو حتميا ونهائيا

ضد التيار في تونس: قوة ثالثة جديدة صعبة و لكنها ممكنة

 
 

يبدو الوضع السياسي في تونس  كأنه يعيش استقطابا ثنائيا بين حزبي النهضة من ناحية و"نداء تونس" من ناحية ثانية وإن أخطر ما في هذا الوضع كونه يبدو حتميا ونهائيا، لكنه في نظرنا يصور هكذا عمدا من قبل الطرفين المستفيدين ويأسا أو طمعا من قبل الأطراف الضعيفة وأملا واهما من قبل بعض أنصار الفريقين في "خلاص" ما من الطرف المقابل.

 

إن إضفاء صفة النهائية والحتمية يجعل هذا الاستقطاب يشبه "النبوءة المتحققة ذاتيا" لأن الناس استسلموا لها مسبقا. كما إن ما يجعل هذه الثنائية تبدو حتمية ونهائية هو بدء اصطفاف القوى في الاتجاهين وضعف من يرفعون راية القوة الثالثة ونعني بهم اليسار الاشتراكي والقومي الذي يخلط بين القدرة السياسية على تحريك الشارع – القابل أصلا للانفجار- و القدرة المفقودة على التحول إلى قوة انتخابية فعلية، ناهيك عن التحول إلى قوة ثورية، وهو يتوهم هذه القوة بسبب العلاقة بالاتحاد العام التونسي للشغل الذي يتجاهلون أنه في النهاية منظمة نقابية تحوي الجميع وهو ليس شبكة تنظيمية قابلة للتحوّل إلى ماكينة انتخابية أو تنظيما ثوريا لأي طرف كان إلا إذا غامر بوحدته بل وبوجوده ربما.

 

-2-

 

إن الخطير في وضعية الاستقطاب الثنائي هذه هو تجميد القوى السياسية في اصطفافاتها الحالية مع رأسي الاستقطاب أو دفع من لم يصطف بعد الى القيام بذلك وكأنه لا يوجد خيار آخر لها ولا حل في البلاد سوى ذلك.

لكن الأخطر من ذلك على الإطلاق هو احتمال تحويل المعركة السياسية المقبلة واختزالها في ما يشبه تصفية حساب تاريخي بين الدستوريين والإسلاميين وهو الأمر الذي بدأت ملامحه تظهر منذ الآن بشعارات "إعادة الإسلاميين إلى السجون" من ناحية و"تصفية أيتام بورقيبة " من ناحية ثانية. ان هذا الاحتمال هو الكارثة المحدقة بالبلاد إذا تصاعدت وتيرة الاستقطاب وإن الشعب هو من سيدفع الثمن بفقدان مكتسباته وقبر آماله السياسية والاجتماعية.

 

-3-

 

السؤال المطروح على التونسيين الآن هو: هل يمكن كسر هذه الثنائية القاتلة عبر خلق قوة ثالثة جديدة صعب تحقيقها و لكنها ممكنة على الأقل جزئيا؟

 

أولا، نريد التنبيه إلى أن هذه القوة الثالثة ليست في رأينا ما يتمنى اليسار الاشتراكي- القومي أن يمثلها لكنه سيكون جزءا منها إذا أراد ذلك بالتأكيد.

 

إنها قوة ثالثة جديدة تعيد خلط وفرز التحالفات السياسية والانتخابية من جديد تماما وهي بسبب صعوبة تحقيقها –مع الأسف- قد تكون الفرصة الأخيرة في المدى المنظور إذا أراد التونسيون الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة التي توجد فيه الآن.

 

ولكن لسائل أن يسأل: ماهي دعائم إمكانية طرح مثل هذا و ماهي ملامحه؟

 

-4-

 

تمثل النهضة رأس الاستقطاب الأول وهي عرفت تقدما نسبيا وتعيش الآن ارتباكا تاما لا يساعدها على الخروج منه في كل مرّة سوى حلفاؤها في" الترويكا" الحاكمة.

 

إن أكبر نقاط ضعف النهضة –إضافة إلى ضعف أدائها الحكومي- كونها تمثل تهديدا تدريجيا متسترا – وليس مباشرا وفضا مثل السلفية وحزب التحرير- ولكنه ملموس لأسلوب عيش التونسيين الحديث الذي يحياه الشعب حتى منذ ما قبل الاستقلال.

 

ان هذا التهديد يمهد لأسلوب حياة محافظ تقليدي ومتزمت على كل المستويات ويقطع بالتالي مع الأسلوب العصري الحداثي المنفتح والمعتدل الذي يميز الشعب التونسي.

 

ان خطورة هذا التهديد تتمثل ليس فقط في التراجع عما كان موجودا بل وفي تحريف مسار التطلعات الشعبية التي صاحبت الانتفاضة منذ 17 ديسمبر 2010 وذلك باتجاه محافظ وتقليدي كما أسلفنا. من ناحية أخرى تمثل علاقات النهضة الخارجية نقطة ضعف سياسية كبيرة بسبب علاقاتها المشبوهة والمفضوحة مع قطر والسعودية وتركيا والولايات المتحدة، وحتى وان كانت هذه العلاقات تسندها ماليا ودوليا فإنها تضعفها سياسيا وانتخابيا.

 

-5-

 

نقطة الضعف المهمة الأخرى بالنسبة للنهضة هي كونها تحكم في تحالف ثلاثي لم يكن في الأصل تحالفا سياسيا أو انتخابيا.

 

إن النظرة الحتمية النهائية حول الاستقطاب الثنائي تنسى التالي:

 

أولا: بن جعفر و المرزوقي وحزباهما شاركوا في الانتخابات الأخيرة للمجلس التأسيسي كمنافسين للنهضة.

ثانيا: كلاهما له توجهات فكرية وسياسية مختلفة فعليا عن فكر وبرامج النهضة.

 

ثالثا: كلاهما يقاسي من تغول النهضة ويعاني من انسلاخات وانقسامات واحتجاجات داخلية بسبب العلاقة بالنهضة.

 

وبالتالي نحن نعتقد -في اطار التفكير في القوة الثالثة الجديدة- انه من المشروع التفكير في كسر التحالف الثلاثي الحاكم الحالي كليا أو جزئيا والسعي لجذب حزبي المؤتمر والتكتل إلى القوة الجديدة.

 

حسب رأينا لا توجد أية موانع مبدئية تحول دون حصول ذلك بل إننا نرى إن المعارضة الحالية للسلطة هي التي تخطأ نسبيا وتدفع إلى تأبيد التحالف الحاكم الحالي عبر عدم تمييزها السياسي العقلاني بين أطراف الترويكا وسقوطها أحيانا في لغة السب والقذف السياسي وتشخصن المسائل أحيانا مع أننا نعرف أن ذلك كله بسبب الهزال والرداءة اللذان يميزان أداء الرئاسة والحكومة و المجلس التأسيسي.

 

-6-

 

"نداء تونس" هو الرأس الثانية في الاستقطاب الثنائي وله أيضا نقاط ضعف كبيرة جدا ومن الممكن استغلالها فعليا بشرط التفكير في المسألة بعقلانية وبمهارة سياسية هدفهما خدمة تونس الجديدة.

 

إن كاريزما الباجي قايد السبسي الحالية قوية جدا لكن عمره وتاريخه بهما ما يكفي من المشاكل لإحراجه فعليا.

لسنا نحن من يركز على مسألة العمر بل الباجي قائد السبسي نفسه، إذ في إحدى أشهر خطبه عندما تولى رئاسة الحكومة قبل الحالية اعترف بأنه وراشد الغنوشي كلاهما من الماضي.

 

كما أن مسألة العمر ليست مهمة إلا في جوانبها السياسية و الباجي يكرر خطأ بورقيبة الذي أحاطت به في نهاية عمره مجموعة استغلت تقدم شيخوخته لتوصل البلاد إلى ما وصلت إليه.

 

والباجي في جانب سياسي أيضا له نفس المنطق الفردي البورقيبي إذ يتذكر الجميع كيف كان يكرر: "لن اتقاسم السلطة مع أحد" وكان يعني وقتها صيغة مجلس حماية الثورة و صفاته المطلوبة.

 

وعموما فهو كان جزءا من النظام السياسي السابق في مرحلتيه و حتى إن كان ترك بن علي باكرا – أو تركه بن علي- فإنه لم تعرف عنه معارضة فاعلة ما لحكم بن علي منذ حوالي عشرين سنة و ليس هو بالتأكيد من حلم الشعب التونسي به عندما بدأ ينتفض.

 

من ناحية أخرى، هنالك شكوك أحيانا ومعلومات سلبية دقيقة وخطيرة معروفة عن الحلقة الأولى من المحيطين بالسبسي حتى و ان لم يكونوا تجمعيين ناشطين سابقين.

 

إن بعضهم ترك الحياة السياسية منذ عشرين سنة تقريبا وبعضهم الآخر له علاقات خطيرة بقطر نفسها وبالامريكييين وكل هذا يعرفه التونسيون وخاصة المناضلون السياسيون والنقابيون والإعلاميون والشبان وغيرهم وكذلك تعرفه النهضة بالتحديد لأن بركات قطر و أمريكا وسعت الجميع. وهذا ما قد يحضر مفاجآت سياسية و ربما انتخابية خطيرة في آخر لحظة.

 

إن" برنامج" نداء تونس السياسي المعوم حاليا يمكن تلخيصه في محاولة استرجاع "أسلوب الحياة التونسي" ولكن ذلك لن يحمي من النقد التالي: لقد ثار التونسيون ضدّ الذين كانوا يطحنونهم بحجة التصدي للاسلاميين دفاعا عن "الاعتدال التونسي" و السبسي لم يتمايز مع بورقيبة أو بن علي من اجل هذا وليس له رصيد شعبي تاريخي في معارضته بل بالعكس فلقد نسيه الناس لعشرين سنة كاملة بينما كانوا يعرفون المناضلين الديمقراطيين و النقابيين.

 

من ناحية أخرى،لا يختلف نداء تونس كثيرا في علاقاته الدولية.و رغم محاولة البعض إلصاق صفة الفرنكفونية عليه في إطار الصراع الأمريكي الفرنسي على المنطقة إلا أن الجميع يدرك أن القوى الدولية مستعدة للعمل مع الشيطان للمحافظة على مصالحها و هي لا تبني سياساتها الخارجية على صديق واحد أو حليف واحد أبدا.

 

الأهم من كل هذا كله،وهو ضعف نداء تونس القاتل، هو كونه ملجأ الدستوريين والتجمعيين الوحيد ووسيلتهم الوحيدة للعودة إلى الحياة السياسية بل وإلى السلطة و ليس "من الشباك" بل من باب عريض ربما. ويعرف التونسيون أن صقور التجمع السياسيين و الماليين و الأمنيين سيقفون مع نداء تونس ولو من وراء الستار كما يعرفون أن احتفاظ بعض الرموز القديمة بأحزاب خاصة بها ما هو إلا إجراء للحماية من المحاسبة القانونية فنراهم يحتفظون بهذه الأحزاب و يقومون في أحسن الأحوال بنشاط رمزي حفاظا على الهيكل أو جهوي محض طمعا في منصب يقنن عدم المحاسبة.

 

إن خطورة عودة التجمع إلى السلطة كليا أو جزئيا- في وضعية الاستقطاب الثنائي- تتمثل إما في إعادة نظام ثار ضده التونسيون و وضع البلاد على حافة الجحيم الانتقامي أو في تحقيق توازن إسلامي – دستوري إما سيعطل أجهزة الدولة في حالة الصراع أو يدفع رأسي القطبين إلى تقاسم الغنيمة بحيث لن يكون هنالك لا محاسبة و لا عدالة ولا انتقال ديمقراطي إلا على مقياس الغولين السياسيين الجديدين إذا تصالحا.

 

-7-

 

إن نقطة الضعف الثانية في نداء تونس هي في كونه –مؤقتا- بدأ يعمل في تحالف ثلاثي مع الحزب الجمهوري- الشابي- و المسار الاجتماعي – ابراهيم- . يعتبر البعض عن حق – ولكن جزئيا- إن هذا الأمر علامة قوة في نداء تونس لكن في الواقع هذا يعكس ضعفا فعليا فيه و في من التحق به على السواء إذ يدل على إن نداء تونس دون حلفاء يعني دستوريين و تجمعيين عراة مفضوحين لا تغطيهم ورقة توت و هذه الورقة هو ما يقدمه الشابي و ابراهيم- صاحبي الماضي النضالي الفعلي- مع الأسف إلى نداء تونس.

 

إن الشابي و ابراهيم يعيدان تقريبا نفس خطأ التحاقهما المتسرع بحكومة الغنوشي –و يعيد الطيب البكوش نفس الخطأ ويظل هو الآخر شخصية محترمة – عوض النظر إلى ما حولهما من حلفاء حقيقيين يتقاسمون معهم مشروعهم السياسي المعلن.

 

إن الحزب الجمهوري و المسار الاجتماعي يضلان اقرب إلى الوسط و اليسار من المسافة التي تفصلهما عن نداء تونس لكن الخوف من اليمين الإسلامي يدفعهم إلى اليمين الدستوري التجمعي عوض البحث عن مخرج سياسي ثالث مع الأسف.

 

لقد تقدم الجمهوري والمسار إلى الانتخابات التأسيسية في قوائم مستقلة –وهذا من أخطائهما- وهما يظلان سياسيا أقرب إلى المرزوقي- المؤتمر- وبن جعفر-التكتل- و لقد كانت هذه الأحزاب الأربعة من الأحزاب الديمقراطية المناضلة ضد بن علي ولم تكن مما كان يسمى "المعارصة الكرتونية" وأربعتهم جمعتهم نضالات مشتركة مع اليسار الاشتراكي والقومي ومع المناضلين النقابيين و الحقوقيين.

 

لهذه الأسباب نحن نصر على انه من الممكن دفع هذه الأحزاب للابتعاد عن النهضة و نداء تونس و للاقتراب من بعضها ومن اليسار القومي و الاشتراكي في نفس الوقت.

 

انه مثلما يجب تجنب تحول ثلاثي الترويكا الحاكمة الى تحالف سياسي دائم يجب كسر التحالف الثلاثي بين نداء تونس و الجمهوري و المسار وجذب الأخيرين أيضا إلى القوة الثالثة الجديدة وتجنب توصيف اجتهاداتهم وأخطائهم السياسية بلغة الخيانة والثورة المضادة، ألخ.

 

-8-

 

يتبادل كل من ثنائي المؤتمر/التكتل من ناحية و الجمهوري/ المسار من ناحية ثانية النقد و المعارضة و يصل الأمر أحيانا إلى ما هو أقسى و يساهمان بذلك في إضعاف بعضهما البعض لصالح النهضة من ناحية و نداء تونس من ناحية ثانية .

 

إن الخاسر الأكبر في هذا هو الوسط و اليسار التونسيين الذين ينتمي إليهما او يقترب منهما مجمل الأحزاب الأربعة المذكورة.

 

ان برامج هذه الأحزاب متقاربة جدا و قادتها و مناضلوها جمعتهم سنوات الجمر الأخيرة عندما كان الإسلاميون يحتمون بهم ولم يكن "نداء تونس" حتى مجرد فكرة تتكون في رحم التجمع الأيل إلى الفناء.

 

من ناحية أخرى تلعب النهضة و نداء تونس الآن دورا في إذكاء نار الفرقة بين المكونات المحتملة الجديدة للقوة الثالثة الجديدة كما تساهم أخطاء الأحزاب الأربعة المذكورة في الأمر و يغذي كل ذلك الاعلام و الشبكات الاجتماعية و الشباب المتمرد غير المسيس جيدا وغيرهم .

 

لكن قوة سياسية هامة تقوم هي الأخرى بعرقلة تفكيك تحالفي النهضة و نداء تونس رغم أنها صاحبة السبق في المطالبة بضرورة و جود قوة ثالثة.ان هذه القوة هي اليسار الاشتراكي و القوميون.

 

إن اليسار الاشتراكي و القومي يخطأ كثيرا في تقييمه للمرحلة السياسية الراهنة و ذلك برفع سقف شعاراته و توهم إمكانية تحويل الحراك السياسي إلى ثورة وطنية-ديمقراطية (اليسار) او يحلم بالنموذجين الناصري أو البعثي في الحكم.

 

ويخطأ هؤلاء أكثر عندما يعلنون أن جبهتهم، التي هي بصدد التشكل، لها هي الأخرى هدف السلطة على جدول أعمالها.إن اليسار و القوميين لا يمثلون في الواقع الموضوعي لا قوة انتخابية وازنة ولا قوة ثورية قادرة على قلب موازين القوى ثوريا إذ يكفي تذكيرهم بما جمعوه من مقاعد في المجلس التأسيسي (انتخابيا) وبغياب أي تأثير لهم في الجيش و الأمن والإدارة (ثورياّاااا).

 

إن الطاقات النضالية لهذه القوة اليسارية –القومية لا يشك فيها احد بل هي القوة الأساسية تقريبا التي صاحبت و أطرت الشباب الثائر منذ 17 ديسمبر2010 داخل اتحاد الشغل و في الشارع لكن – كما قلنا سابقا- إن القدرة على تحريك الشارع شيء و القدرة الانتخابية أو الثورية شيء آخر تماما.

 

ان أكبر خدمة يقدمها اليسار و القوميون الآن لتونس هي استفاقتهم السياسية من أحلام الرومنسية الثورية وإدراكهم لحجمهم من ناحية و للواقع السياسي من ناحية ثانية.إن عليهم المراوحة بين سياسة المبادئ الثورية والسياسة بوصفها فن الممكن في نفس الوقت.لو أدركوا هذا لجمعوا بين المبدئية و النجاعة السياسية إما خلاف ذلك فإما سقوط في إصلاحية مقيتة أو في فوضوية و انعزالية أمقت.

 

إن اليسار القومي و الاشتراكي عليه أن يتبنى الدعوة إلى جبهة جمهورية ديمقراطية مدنية واسعة مع الأحزاب الأربعة المذكورة سابقا و مع أحزاب أخرى وسطية نذكر منها بالخصوص "حزب الإصلاح و التنمية" وريث حركة الإسلاميين التقدميين الذي يعد برنامجه و مناضلوه أقرب إلى الديمقراطية الجمهورية .

 

ان على اليساريين و القوميين الاستفاقة من الحلم الثوري و الوعي بالواقع السياسي الحالي واعتماد المرونة السياسية لسد الطريق أمام عودة الحكام السابقين و تغول الحكام الجدد و لن يقوموا بذلك إلا على قاعدة عقلانية سياسية يتجاوزون بها الخطاب الطلابي الثمانيني ويؤسسون لخطاب و ممارسة جديدين حفاظا على أنفسهم من الانقراض و على جذوة المطالب العمالية و الشعبية و القومية المشروعة بالتأكيد.عليهم الاستفادة من دروس العراق وسوريا المريرة و دروس أمريكا اللاتينية و يسارها الجديد .

 

كما على اليسار و القوميين الانتباه للوهم السياسي – و ليس النقابي المهني و الاجتماعي- الذي يحملونه عن الاتحاد العام التونسي للشغل حتى يساهموا في حماية وجوده ووحدته و نضاليته النقابية و لا يدفعون به إلى المجهول بمحاولة تحميله الدورالسياسي الذي يفشلون هم في تحقيقه بوصفهم قوى سياسية.

 

-9-

ما دمنا حددنا القوى السياسية المعنية بتشكيل القوة الثالثة الجديدة يبقى أمر على غاية من الأهمية لا بد من توضيحه.هل هذا يعني دفع التكتل /المؤتمر لترك الترويكا الحاكمة الآن؟ و هل هذا يعني دفع الجمهوري/المسار لعدم النقاش تماما مع نداء تونس؟  و هل يعني هذا عدم تأسيس جبهة اليسار /القوميين الآن؟ عن كل هذه الأسئلة نجيب : قطعا لآ.

 

أولا:من مصلحة البلاد وجود سلطة قائمة –ولكنها انتقالية-على شرط دفع ثنائي التكتل/المؤتمر إلى المزيد من الاستقلال عن النهضة و الاقتراب من الخيارات الجمهورية الديمقراطية المدنية.لكن القطع بلا لا يعني عدم التفكير أصلا في المسألة مهما كان ما سيحصل في الأشهر القادمة. فإذا تغولت النهضة و ووقعت تبدلات كبرى في تركيبة الكتل النيابة في المجلس بشكل يمكن من الحصول على أغلبية نيابية تأسيسية جديدة فتصبح النهضة أقلية يمكن – نظريا- التفكير في الأمر.

 

ثانيا:ان الحوار بين الجمهوري/المسار مع نداء تونس قد لا يضر بل ينفع القوة الثالثة الجديدة على شرط عدم الهرولة السريعة و "الاحتماء" بنداء تونس لأن هذا الوهم هو في الواقع مثل من "يستجير من الرمضاء بالنار".

إن نداء تونس هو بصدد التشكل و قد ينفع الحوار معه لفرض خيارات عليه سواء على مستوى البرامج أو على مستوى سد الباب أمام صقور التجمع،الخ… إذا،وبعيدا عن التشنج السياسي و عن الهرولة في نفس الوقت، لو فكر الجميع بروية و عقلانية سياسية لوجدوا أن ما يوحد التكتل/ المؤتمر/الجمهوري/المسار/اليسار القومي –الاشتراكي اكبر مما يفرقهم و مما يقربهم من النهضة أو من نداء تونس.

 

ثالثا:ان التأسيس الفعلي لجبهة اليسار-القوميين أمر ضروري و محبذ على شرط أن لا تولد هذه الجبهة منغلقة على نفسها برنامجيا و هيكليا .إنها فرصة للنضج السياسي و العمل المشترك و لكن على هذه الجبهة ان تتجنب التصورات الطهرانية في السياسة –بحجة المبدئية- مع المحافظة على البوصلة الجمهورية الديمقراطية المدنية و التقدمية الممكنة فعليا من اجل ان لا تدمر المبادئ الممكنات و ان لا يعرقل الممكن المتاح مواصلة النضال و التقدم.

 

-10-

 

إن نجاح هذه القوة الثالثة الجديدة يبدو صعبا جدا في الوقت الحاضر لأول وهلة.ان ما نراه هو هرولة سريعة باتجاه "نداء تونس" بحجة الدفاع عن الحداثة و التقدم و هرولة مضادة باتجاه النهضة بحجة الدفاع عن الهوية و الأصالة.

 

ان هذه الهرولة تصحبها أحيانا نوايا صادقة و في الغالب تقديرات سياسية خاطئة و طموحات شخصية في المناصب الادارية و المقاعد البرلمانية و الحقائب الوزارية،كل حسب حجمه.

 

ولتجنب التخندق المتسرع و الخطير وراء أحد رأسي القطبين على المثقفين و المناضلين السياسيين و النقابيين الشرفاء في كل هذه القوى و على الشبان المتمردين لعب دور هام في هذا المجهود للتدليل على ان الثنائية القاتلة التي هي بصدد التشكل ليست قدرا سياسيا مفروضا على تونس التي يمكن لشعبها ان يختار غير الإسلاميين وغير الدستوريين في نفس الوقت.

 

ان اللحظة التاريخية ليست لتقاسم الغنائم بل للبحث عن مشروع مجتمعي مستقبلي جمهوري ديمقراطي و مدني يفتح باب الأمل فعليا أمام الشعب التونسي.و لو ان القوة الثالثة الجديدة بدأت تتشكل لأصبح بالإمكان تحريك قطاعات و اسعة من المثقفين و المبدعين و المنظمات و الجمعيات و كسب عدد هام من المستقلين و خاصة الإطارات الإدارية و الشبان و لبدأ ت كتلة انتخابية جديدة في التشكل تقطع الطريق أمام تغول رأسي القطبين.

 

إن أشخاصا (و أحزابهم) يتحملون مسؤولية كبرى في هذه اللحظة السياسية لتجنيب البلاد الاستقطاب الثنائي الذي قد يصبح قاتلا في المستقبل .ان زعماء الأحزاب الأربعة المذكورة و قادة اليسار و القوميين يتحملون مسؤولية تاريخية لأنهم اقرب إلى بعضهم من اية قوة سياسية أخرى و على مناضلي الصفوف الأخرى في هذه الأحزاب و التنظيمات دفع قادتهم لتجنب التسرع و الهرولة في التخندق لأن المهم هو وحدة البرامج و المشاريع السياسية و المجتمعية أولا وان لم يحصل ذلك فان انشقاقات جديدة قادمة في الأفق تعزز من سبق و انسلخ مثل التيار الإصلاحي الديمقراطي التقدمي -الحامدي- و مجموعة عبدالرؤوف العيادي ،الخ.

 

انه أمر صعب و معقد و قد يكون مفاجئا للغالبية الساحقة من المناضلين و المواطنين الذين يكادون يستسلمون لثنائية نداء تونس/النهضة.

 

يقال انه "عندما تتملك الحمى بجسد جماعة ما يصعب على البراهين و الكلمات إن تسكنها" و لذلك سيتعامل البعض مع هذا المقترح على انه "حلم يقظة" أو ضرب من"الخيمياء" السياسية غير الواقعية تماما بسبب ما تعرفه الحياة السياسية التونسية اليوم.غير إننا ندعو الجميع بالتحديد إلى الهدوء و التروي و إعمال العقل و النظر في البرامج المتشابهة و تذكر النضالات المشتركة والمكاسب المشتركة التي لا بد من المحافظة عليها و تعميقها و تطويرها من أجل تونس الجديدة.

 

نحن نعرف إن هذا المقترح "سيتعب" الجميع لأنه يطلب من الكل تفكيرا جديدا غير منتظر منهم و لكنه يخدمهم جميعا لأنه يشير الى قواسم مشتركة فعلية بينهم و هم جميعا أقرب الى الفئات المتوسطة و الفقيرة من الشعب و أقرب الى المشروع الجمهوري الديمقراطي المدني و التقدمي و لكل ذلك فان هذا المقترح ليس مستحيلا عليهم. و حتى ان كان كذلك نقول لهم:

 

" فلنكن واقعيين ولنطلب المستحيل" فما يبدو اليوم مستحيلا قد يصبح واقعيا غدا ،ولو جزئيا، و ما يبدو اليوم واقعيا وسهلا قد يستحيل تحقيقه غدا أو قد يتحقق ولكن ككابوس سياسي يأتي على الأخضر و اليابس في تونس.

 

بقلم: بيرم ناجي (عن موقع الحوار المتمدن :www.ahewar.org)

 

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.