لكي لا نظلم السلفيين التونسيين

تضاعفت منذ بداية ثورة 14 جانفي مظاهر التدين على ملامح العشرات الآلاف من التونسيين. فبعدما كان قطاع واسع من المجتمع يخضع في علاقته بالدين الإسلامي إلى تدخل سافر من طرف أجهزة الدولة، انزاح أمام طريقهم عدة حواجز وضع أسسها نظام كان لا يرى في الإسلام سوى وجهه السياسي…



لكي لا نظلم السلفيين التونسيين

 

تضاعفت منذ بداية ثورة 14 جانفي مظاهر التدين على ملامح العشرات الآلاف من التونسيين. فبعدما كان قطاع واسع من المجتمع يخضع في علاقته بالدين الإسلامي إلى تدخل سافر من طرف أجهزة الدولة، انزاح أمام طريقهم عدة حواجز وضع أسسها نظام كان لا يرى في الإسلام سوى وجهه السياسي.

 

وبانهيار جزء كبير من أركان الاستبداد، شملت الحرية المكتسبة جميع أطياف المجتمع. حرية مكنت التونسيين من البحث عن جزء من ذواتهم والغوص في جانب من هوياتهم. ففيهم من حافظ على قناعة كونه سليل دولة حداثة بورقيبية، استطاعت ملاءمة الأنا التونسية بين عصرانية غربية وتراث محلي ضارب في التاريخ، وأن فترة "الانحراف النوفمبري" لا بد أن تُغلق بسرعة من أجل الحفاظ على المكاسب المحققة. وفيهم من ربط بين ما تعيشه تونس منذ استقلالها من حيف اجتماعي صارخ ومن تخلف ثقافي مستشري يعود في جزء كبير منه إلى فرض حداثة مصطنعة لا تليق بمجتمع "عربي ومسلم"، ولا حلّ لانقاذ البلد سوى بلفظ تلك الحداثة الفوقية والعودة إلى نظريات فقهاء الإسلام في الإسلام "النقي". ولم يكن بالتالي مفر من الصدام.

 

الصدام الذي بدا للوهلة الأولى كأنه تناقض فكري بين أصحاب ايديولوجيتين متباينتين بخصوص طبيعة المجتمع وشكل هويته، لكنه يخفي خلفه تناقض جوهري أعمق وأكثر خطورة، من شأنه أن يقضي على المساحة الرمادية التي قد تجمع نقاط اللقاء بين الجانبين.

 

فالملاحظ أن التيارات السياسية والفكرية التي تؤمن بنمط المجتمع العلماني تنتمي اجتماعيا إجمالا إلى الفئات المرفهة والمتعلمة التي تمكنت من نيل نصيب من المعارف مكّنها من الاطلاع على حقيقة الإسلام وتاريخه، ومقارنته ببقية الأديان ما جعلها تتوجس خيفة من تسييس الدين وتوظيفه نظرا لما حفظت به الذاكرة الجماعية للإنسانية من أرشيف أسود في الفترات التي أمسك رجال الدين بالحكم. كما ترتعد فرائص أتباع تلك الشرائح الاجتماعية على نسق حياتها المتحرر من ضوابط قراءات فقهاء نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الإسلام.

 

في المقابل، تحتضن التيارات الإسلامية جزء لا يستهان به من المحرومين والمفقرين الذين عجزت الدولة عن ادماجهم في المجتمع، فوجدوا فضاءات ومرجعيات تحقق لهم السكينة والطمأنينة وليس أفضلها في ذلك الدين. فجنّدت المساجد أعداد وفيرة من أتباع الحركات الإسلامية التي استطاعت صياغة ايديولوجيا سياسية استقطبت جحافل من التونسيين الرافضين لفكر علماني ارتبط في مخيلتهم بطبقة بورجوزية متعالية ومتأففة من همومهم.

 

فليس من باب الصدفة مثلا أن تحظى النهضة بأغلبية انتخابية في شريط الفقر المحيط بالمدن أو بالهلال الغربي للبلاد، تاركة للأحزاب ذات الخلفية اللائكية قاعدة انتخابية بالأحياء الراقية والمدن السياحية.

 

والانتخابات الني حملت حزب إسلامي إلى سدة الحكم لم تضرب في الصميم هذه المعادلة. فرغم أن النهضة تجتهد حاليا من أجل أن تمثل جميع طبقات المجتمع ساعية لإرضاء الأثرياء عبر المحافظة على النظام الاقتصادي الذي تسير وفقه البلاد منذ عشرات السنين، وكذلك من خلال استمالة الفقراء من خلال تنشيط ماكينة العمل الدعوي وإرساء شبكة للعلاقات الزبونية عن طريق الجمعيات الخيرية المقربة منها، فإنها بدت تفقد نوعا ما قدرتها على التوفيق الصعب بين النقيضين لكونها لا تملك السلاح الذي بمقدورها تمييع حدة ذلك التناقض: القوة القهرية التي لم يعد ممكن الاستنجاد بها بعد طي صفحة الاستبداد.

 

وطبيعي أن يجد الرافضون لهرمية المجتمع الحالية وكل ما تحمله من رموز وأفكار وتمثلات في الايديولوجيات المغلقة والمتمردة ظالتهم. فالفكر السلفي في جوهره شكل من أشكال الانغلاق على الذات، ورفض الحاضر عبر الارتماء في أحضان انتماءات ماضوية.

 

وإذا أضفنا إلى ذلك، بروز مجتمع موازي له طقوسه وروابطه وعلاقاته، نسجه سلفيو تونس بفضل حالة اللحمة الايديولوجية التي تمتنت بينهم، عاضدها في ذلك حالة الزبونية التي أوجدها المنتمون إلى هذا التيار من أبناء الطبقة الوسطى عبر تقديم المساعدات العينية والنقدية تحت غطاء التكافل والود والرحمة، فإن قائمة الوافدين إلى فكر السلفي لا شك أنها ستزداد طالما ظل الوضع الاجتماعي على حاله.

 

فالخلاف إذن بين الحداثيين والإسلاميين بشكل عام ليس شكلي أو سطحي يتعلق بهوية البلد ودولته فحسب، وإنما هو إحدى التعبيرات عن تناقض محوري بين شرائح اجتماعية تسعى للسيطرة على مؤسسات الدولة عبر كسب أنصار لها من أجل تحقيق هذه المهمة من خلال بث أفكار تلك الايديولوجيتين. والحوار بين الطرفين أو استعمال القوة (عبر استخدام القانون) لتلطيف حدة هذا الصراع لن يكون مجديا بدرجة معتبرة، ما دامت ثروة البلاد غير موزعة بشكل عادل بين المواطنين. وستظل الرغبة في المحافظة على الامتيازات من جهة، والفقر والخصاصة من جهة أخرى يغذيان الدفع عن التطرف في الجانبين.

 

سفيان الشورابي (صحفي)

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.