حكومة عدم الكفاءة

سنة سياسية واحدة كانت كافية لاختبار قدرة جزء من الطيف السياسي الذي قضّى قسم من ماضيه في معارضة سياسة نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. فترة قصيرة لكنها كشفت مقدرات رجالات السياسة في تسيير شؤون دولة…



حكومة عدم الكفاءة

 

سنة سياسية واحدة كانت كافية لاختبار قدرة جزء من الطيف السياسي الذي قضّى قسم من ماضيه في معارضة سياسة نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. فترة قصيرة لكنها كشفت مقدرات رجالات السياسة في تسيير شؤون دولة.

 

قلة محدودة من الأشخاص من توقع سابقا حدوث انهيار سريع لسلطة قوية وصارمة تحكمت بقبضة من حديد في الشؤون العامة وحتى خاصة للتونسيين. فثورة شارك فيها شباب انتفض ضد الطغيان والحيف صعّدت الى دفة الحكم طبقة من السياسيين قارعوا، بدرجات مختلفة، الحكومات الموالية لفترة الاستقلال. فبيْن العمل السياسي السري والنشاط الحقوقي العلني، في داخل البلاد وخارجها، خاض معارضو بن علي معارك شرسة من أجل التخلص من الاستبداد، كل حسب الأسلوب الذي اعتقد في سلامته؛ ففيهم من فضّل الاستفادة من المكاسب المحققة وسعى إلى توسيع نطاق استفادة منها عبر ممارسة الضغط التدريجي واللين، ومنهم من لفظ النظام بكامله وعمل على الاطاحة به كلياً.

 

وكلا الطرفان فشلا اجمالا في حسن ادارة المعركة. فكانت تمرد جزء من الشعب الذي يجهل في جله تواجد تلك الحركات السياسية، ولا يفقه في أدبياتها شيئا يُذكر، هو الذي أدّى، في نهاية المطاف، إلى التخلص من سلطة تغولت على صلاحيتها.

 

بعد الثورة التي أفرزت تحرر وسائل الاعلام من القيود التي فُرضت عليها، وحرّرت الحياة السياسية والأهلية من العراقيل التي حالت دون اطلاع المجتمع على شريحة من التونسيين انخرطوا في الحياة السياسية، أطلت على شاشات التلفزيون وفي صفحات الجرائد وجوها لم يعهدها التونسيون من قبل. أسماء احتلت بسرعة المشهد السياسي الذي أفرغ بسرعة بعد سقوط مدوي لرموز تظام المنهار.

 

انتخابات 23 أكتوبر المنصرم سمحت باختيار الأشخاص الأكثر قدرة على الاقناع والأفضل حنكة في جلب الأنصار من بين الطبقة السياسية الجديدة. فانضافت لقائمة سياسي ما بعد 14 جانفي، طاقم جديد من محترفي السياسة الذين تمكنوا من الحصول على ثقة ناخبيهم خلال تلك الانتخابات.

 

واثر اختيار أعضاء الحكومة التي تقاسمها ثلاثي حظي بالأغلبية النسبية في مقاعد المجلس التأسيسي، لم يكن هناك مفر من تعيين فريق حكومي وفق مبدأ المحاصصة الحزبية. فمن جهة، كانت حركة النهضة، التي انقضت بسرعة على السلطة معلنة فوزها بأغلبية الأصوات قبل الاعلان النهائي عن قائمة المنتصرين، تتلهف على المسك بجميع مفاصل السلطة التنفيذية، يصاحبها في ذلك حزبان فوجئا أكثر من غيرهما، بنيلهما ذلك العدد الغفير من الأصوات. ومن جهة أخرى، رضيت قوى المعارضة صلب التأسيسي بمنطق الهزيمة، وبدأت في سياسية قصف ممنهجة ضد الحكومة من أجل تأليب الرأي العام ضدها، وكأننا حاليا في ظل برلمان عادي يُسيّر أمور بلد مستقر!

 

ألا وتشكلت الحكومة الانتقالية التي عهدت اليها مهمة ادارة شؤون الدولة بصفة مؤقتة الى حدود سن الدستور، لكن في حقيق الأمر، لم تُعهد اليها صراحة آمالا كثيرة في قدرتها على حسن الاشراف على جهاز حكومي انقصم ظهره بسقوط النظام البائد.

 

فالاطلاع على السيرة الذاتية للتشكيلة الحكومية، يلاحظ فيها أنها تراوحت في غالبيتها، بين قيادة لحزب مهجور من الناس في حالة فرار معظم الوقت من مراقبة الشرطة، وترأس جمعية حقوقية لا يتجاوز أعضائها عدد أصابع اليد الواحدة، والهجرة لمدد طويلة خارج البلاد والانقطاع عن متابعة أحوالها. هذا دون أن نتحدث عن وزراء لم يشتغلوا ولا مرة طيلة حياتهم في أية وظيفة كانت.

 

ولا شك أنه لم تكن هناك رغبة من وزراء تونس الجدد في ما وقع لهم من تهميش اجتماعي؛ فتلك هي كانت أحد مكونات السياسة الاستبدادية لبن علي. الا أنه كان على القادة الجدد لدولة الجمهورية الثانية أن يأخذ قليلا من الزمن للتدرب على تسيير شؤون الدولة. فالعمر الافتراضي القصير للحكومة المنبثقة عن المجلس التأسيسي لا يسمح بادارة ناجعة لأمور البلاد من طرف قياديين يافعيين، وكان من الأجدى تركها لتكنوقراط وخبراء لهم من المهارات والمقدرات المعرفية على حسن التعاطي مع القضايا الشائكة.

 

غير أن جشع ثالوث الأغلبية النيابية أعماهم عن التفكير في مصلحة البلاد. فلهثوا خلف حقائب وزارية لا يفقهون ملفاتها، وحازوا مكاتب لا يعون صعوبة ادارتها. هكذا وجد سياسيون أنفسهم ينتقلون من مطاردات الشرطة وزنزانة السجون إلى مواقع خطيرة في اتخاذ قرار مصير شعب بأكمله.

 

لم يكن من السهل أمام هؤلاء حلّ القضايا العويصة المطروحة عليها خاصة أن معظمها معطل جراء فشل السياسات الحكومية القديمة. كتيبة من المستشارين تعاضد وزراء تونس الجدد دون جدوى. ما جعل اللخبطة والعشوائية والتخبط هي أهم ما يميز معظم قراراتهم.

 

كما لم ينزع كبار مسؤولي الحكومة جبتهم الحزبية. فتتالت التصريحات النارية الصادرة عنهم في مختلف المسائل التي لا تهم في جلها مجال اهتمام وزاراتهم. فزمن حضورهم في بلاتوهات الاذاعات والتلفزات أكثر مما يقضونه في معالجة مشاكل لا يفقهون منها شيئا.

 

ونتيجة ذلك، تواصل ديمومة الأزمة السياسية التي أُعتقد أنه سيتم تجاوزها بمجرد انتخاب المجلس التأسيسي، ناهيك عن تعمق حدة الانقسام في صلب المجتمع. ولو استمرت هذه المظاهر، فإن حربا أهلية قد تطل برأسها في البلاد؛ وهو ما لا يتمناه أي وطني صادق.

 

سفيان الشورابي (صحافي ومدون)

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.