كلنا في الهارلم شايك سوا

تجاوزنا السنتين من عمر الثورة ومازلنا نبحث عن مفردات تنطق بأحوالنا وتُعين على رسم المشهد العامّ الذي نحن ضائعون في تفاصيله، ونحن بعضٌ من تفاصيله. ..




كلنا في الهارلم شايك سوا

 

تجاوزنا السنتين من عمر الثورة ومازلنا نبحث عن مفردات تنطق بأحوالنا وتُعين على رسم المشهد العامّ الذي نحن ضائعون في تفاصيله، ونحن بعضٌ من تفاصيله. 

بوادرٌ ظهرت مع كلمات ذلك الشيخ الذي وقف، دون أن يدري، على عتبة الحكمة إذا ما اعتبرنا الحكمة في بعض أوجهها وقوف على مسافة معينة من ضوضاء الدّنيا، وتملّص من التورّط في الإجماع الذي قد يبلغ حدّ الخلط بينه وبين النّفاق بدعوى تماسك الجماعة، كأن تتستّر عائلة على فضيحة اغتصاب بنت صغيرة من قبل مَحْرَمٍ بدعوى الحفاظ على الشرف، أوكأن يخترق صوت صبيّ توافق الجموع ليصدع بأنّ الملك عار.

يومها لم يُؤْتَ شيخنا حكمة سليمان، ولا هو قرأ فوكو أو أحدا من فلاسفة الشرق القديم، ولا علم له بما حدّث به ابن عربي وأجلّة الشيوخ من المتصوفة. مسافته لم تكن مع هدير الدنيا. كانت مع الدّنيا ذاتها، فصاغ كلماته في أبسط ما تسمح به اللّغة من تمزيق لستار الحياء الذي تنسجه اللّغة حجابا بينها وبين الحقائق البديهية. 

"أحوالنا مْنَيَّكَه أَصْلْ". هكذا قالها بكلّ عفوية وأريحية.لم ينتبه حتى لفُحش اللّفظ طالما كانت حياته أكثر فُحشا من كلّ مفردات القواميس.

لحظة لقطتها عدسة قناة "الحوار" التي تبيع اليوم "معدنوسا" أمام مقرّها لتَحْيَى أو لتحاول أن تحيى. والعلاقة بين عبثية لحظة الشيخ وبين سريالية الفعلة الحوارية ليست من باب الصّدفة. 

ثمّ تحوّلت اللحظة عبر الفايسبوك إلى لحظات، ودُعِي الشيخ إلى قناة التونسية، وذاب وقع الصّدمة الأولى لدى أهل العفّة منّا وهم كثر، ولا يسكنون بالضرورة حوانيت تجارة الأخلاق والفضيلة وحدها.

لا أحد كان يتوقّع، أو ربّما كان باستطاعته أن يتكهّن، أنّ تلك الكلمات الصادمة قد تكون نوعا من إشارة البداية للهارم شايك الذي سيجتاح بعضا من معاهدنا في انتظار طوفان مرتقب. 

معالي وزير التربية نغّص على نفسه الويكاند ومعركة البقاء في الحكومة بعد أن قال فيها رئيس الوزراء الأسبق نفس قولة الشيخ ولكن بألفاظ مرتّقة بحجاب وفق ما تقتضيه بلاغة اللّغة ونظم الكلام، فطلع المربّي من مقهاه عشية الأحد ليذكّر الخلق بمكارم الأخلاق، ولا أدري إن وجد ما يكفي من الوقت ليقرأ عن الهارلم، وعن الشايك، وعن الاثنين متصلين، وإن كان يعلم أنّ نسبة مشاهدة الكليب الأصلي لهذه الظاهرة قد بلغت ثلاثمائة مليون متصفّح، وأنّها لحظات عبثية تحمل نوعا من الردّ على العبثية المحيطة بنا من كلّ حدب وصوب، وصرخة حياة فوضوية كأفضل ما تكون صرخات البقاء التي لا وقت لها للانتظام وارتداء لباس الأعراف والتقاليد والاستلاب. فلكم حمل الأدب والفنّ مثل هذه الصرخات غداة خروجه من الحرب العالمية الأولى ثمّ الثانية بعد أن عافت البشرية نفسها لعمق الهوّة التي تردّت فيها. 

وليس من عاقل يمكنه اليوم أن ينكر أننا بدأنا نعاف أشياء كثيرة في بلدنا. يسمّى هذا انهيار الأمل، ويسمّى هذا انسداد الأفق، ويسمّى الخوف من المستقبل، والخشية من المجهول، وتزعزع الثقة في ربّان السفينة… ويسمّى طلقة رصاصة دوّى صداها في الأنفس والمعنويات، وأهل الحلّ مازالوا يتناقشون في جملة فعلية دفننا فيها المفعول به ومازلنا نبحث عن الفاعل، والكلّ يعلم أنّه ليس مفردا، وفينا رِيبة في الضمائر المستترة وراءه، والبوليس نعت لمنعوت يشدّ خيوط اللّعبة، والعدالة حال و"حليلة" بالتعبير التونسي. 

كنت كلّما أخطأت أمام ابنتي في نطق اسم لفنّان من فناني الرّاب المشاهير أو لَوَيْتُ عنق كلمة من كلمات الأغنية إلاّ وسارعت بتدارك الفاجعة وهي تردّد "آش لزّك، ماهو كي ماتعرفشي، اسكت". فأسكت لئلاّ أخجلها أمام أصدقائها وأمام اللي يسوى واللّي ما يسواش.

عدد كبير من نوابنا ونائباتنا في المجلس التأسيسي لم يفعلوا مثلي. صنعوا دستورا مصغّرا، ووضعوا قوانين تعامل فيما بينهم، وكرّاس شروط، وميثاق شرف ألخ، لكنّهم سهوا عن رسم الخطوط الفاصلة بين الحياء وعدمه، وبين حفظ ماء الوجه وإراقته، فكان عدد من التدخلات، والشطحات، والمعارك، والجهلوت، وحالات الصرع، والهذيان، والتشنّج ألخ، أشبه بهارلم شايك مرّ بالخليج قبل أن يستقدموه، فلا أخذوه عن أصله ولا تركوه من أصله.

ربّما الذي أتاه الصغار في المعاهد نوع من الرسالة إلى كبار الحيّ الذين أثقل الروماتيزم رُكُبَهم (رْكَايِبْهم بالدارجة) وهم لا يستحون على الرّقص، فلا أتوا رقصا ولا أراحوا مفاصلهم. وربّما رفض في الاعتراف بالسلطة المعنوية لكهول يتصرّفون في البلد تصرّف صبية فاتهم الرّشد ولا أمل يرجى منهم لفوات العمر فيما أفسده الدّهر، وربّما أشياء أخرى لا قدرة لي على فهما.

لكنّ الأكيد أنه ثمّة شيء ما من قبيل رقصة الحياة ضدّ ظلمة العدم، وجملة حركات لا معنى لها… من أجل إعادة بناء المعنى.

 


مقال لفتحي بن الحاج يحيى – نشر بمجلة "نشاز"

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.