وثائق تونس السرية!

بين كل فينة وأخرى يخرج في تونس من يقول، من الصحافيين أو من بين من يقدمون أنفسهم على أنهم يعملون في مواقع ألكترونية مختصة في الصحافة الإستقصائية، إنه حصل من مصدر ما، لا يحدده بالطبع، على وثيقة سرية جدا وغاية في الأهمية قد تكون مقطعا مسجلا بالصوت والصورة لجماعة يخططون لأمر جلل، أو تقريرا …



وثائق تونس السرية!

 

بين كل فينة وأخرى يخرج في تونس من يقول، من الصحافيين أو من بين من يقدمون أنفسهم على أنهم يعملون في مواقع ألكترونية مختصة في الصحافة الإستقصائية، إنه حصل من مصدر ما، لا يحدده بالطبع، على وثيقة سرية جدا وغاية في الأهمية قد تكون مقطعا مسجلا بالصوت والصورة لجماعة يخططون لأمر جلل، أو تقريرا رفعته جهة ما في وزارة الداخلية، أو تعليمات أمنية يقول إنها صادرة من هذه الجهة إلى تلك الجهة، أو حتى خبرا يقول إنه ظفر به من مسؤول أمني ما.

 

وأمام تعدد هذه الحالات وانحصارها في المجال الأمني بالدرجة الأولى ودخول أصحابها في ما يشبه التنافس المحموم عن أيهم الأبرع في اقتناص الأخبار الأكثر إثارة وخطورة، فإننا نجد أنفسنا أمام ثلاثة احتمالات: الأول أن بعض الصحافيين التونسيين أصبحوا من النباهة ما يجعلهم يصلون إلى ما لا يصل إليه زملاؤهم في أعرق الديمقراطيات إلا بصعوبة بالغة وفي مناسبات تعد على الأصابع. الثاني أن الأجهزة الأمنية في تونس أصبحت مستباحة إلى درجة أن وثائقها وتقاريرها لم يعد لها من السرية إلا الاسم. الثالث: أن هناك جهات أمنية تتبرع لبعض الصحافيين بهذه المواد والأسوأ أنها قد تكون تفعل ذلك في إطار صراع داخل الأجهزة نفسها أو بين بعضها وجهات سياسية معينة خاصة عندما يتم أحيانا تسريب أخبار خطيرة من خلال مكالمة هاتفية مجهولة المصدر إلى الصحافي أو حتى مجرد رسالة نصية على هاتفه النقال.

 

ما يتم تناقله في هذا السياق أخبار تتعلق مثلا بمن يقف وراء اغتيال المعارض اليساري البارز شكري بلعيد في فيفري الماضي أو القول بوجود جهاز أمني مواز داخل وزارة الداخلية يعمل لحساب حركة ‘النهضة’ الإسلامية أو أن أمن المطار مخترق من عناصر تسهل دخول وخروج من تريد خارج الإجراءات الأمنية المعروفة أو أن هناك فرقة اغتيالات تتدرب على السلاح لها علاقة بجهة سياسية ما… وغير ذلك كثير… مع ذكر أسماء محددة وتواريخ معينة في حبكات تبدو مشوقة ولكن لا أحد قادرا على الجزم بصدقها من عدمه.

 

ماذا يحصل بعد الكشف عن مثل هذه الأخبار الخطيرة؟ لا شيء!! وزارة الداخلية تسارع إلى التكذيب وكذلك حركة "النهضة" ولكن لا هذا التكذيب ولا ذاك بقادر على وضع حد لسلسلة التساؤلات المعلقة التي تتركها تلك الأخبار خاصة عندما يكون منسوب الثقة في تونس اليوم محدودا للغاية من الكل تجاه الكل. لم نسمع بأي جهة رسمية تفتح تحقيقا في أي مما سيق من شبهات أو اتهامات. لا أحد قطع الشك باليقين رغم أن هذه القصص تبدو متماسكة وموثقة بعناية وخطورتها الأبرز ارتباطها بالأمن الوطني للدولة بكل ما تعنيه الكلمة.

 

الخوف الآن كل الخوف هو أن الأجهزة الأمنية التونسية، وهي التي لم تستعد بعد ثقة المواطن، قد دخلت في صراعات لا أحد يعرف ملامحها بالضبط ومدى امتدادها إلى عالم المال والسياسة، وأنها في صراعها هذا لا تتورع عن توظيف الصحافيين بعلمهم أو بدونه. الصحفي ليس صندوق بريد لإيصال هذه الرسالة أو تلك كما أنه ليس أداة أو جسرا لتصفية حسابات لا تخصه ، حتى إن كانت بعض القصص المعلنة صحيحة.

 

السبق الصحفي مغر للجميع ولكنه لا يأتي كما اتفق دون تمحيص كبير وتدقيق صارم. عندما يحصل الصحافي على ما يقول إنه وثيقة سرية على غاية من الخطورة فليس مطلوبا منه أبدا أن يسارع هكذا بالتخلص منها برميها في سوق التداول الإعلامي والسياسي. واجبه المهني والأخلاقي يقتضي منه تحري صدقية الوثيقة والاتصال بكل من ورد إسمه فيها حتى تكتمل عناصرالقصة فيقف بنفسه على ما هو أكيد فيها فلا يعتمد سواه . بذلك هو يلتزم ‘مسافة أمان’ معقولة تجاهها فيحترم نفسه ومهنته والحقيقة وجمهوره.

 

بقلم محمد كريشان (القدس العربي)

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.